الطائفية التربوية وليس التربية الطائفية، وقد عمدت إلى صياغة العنوان بهذه العبارة المختارة بدقة، انطلاقاً من قناعتي بأن هناك فرقاً في المعنى بين التعبيرين، فبينما يقصد من الأول التربية المنزلية التي يقوم بها الأهل، ويتولاها الوالدان، ترمز الثانية إلى ما يتلقاه الطفل أو الشاب على مقاعد المدارس، وما يتعرض له في فصولها. وما يدفع المرء إلى تناول مثل هذا الموضوع، هي تلك الموجة العاتية التي بدأت تعم بعض مدارس البحرين الحكومية، حيث أصبحت تصم آذان المواطن روايات وقصص تنضح بالسلوك الطائفي المقيت، الذي يمارسه من يفترض فيهم تقدم صفوف محاربي الطائفية ومن يحتم عليهم واجبهم الوظيفي أن يقفوا ضد إفرازاتها الاجتماعية. خطورة هذه الظاهرة، التي تفشت بين أفراد الطواقم التعليمية، تكمن في النقاط التالية:
1 - انعكاساتها الاجتماعية السلبية، حيث بات من الصعب، بفضل انشطار السلوك التربوي على أسس طائفية، تحقيق اللحمة الاجتماعية المطلوبة بين الطوائف المختلفة، وسيتحول المجتمع البحريني، جراء الأفكار الطائفية الخبيثة التي غرست في أذهان أبنائنا وبناتنا، إلى فئتين اجتماعيتين متصارعتين سلوكياً، وغير قابلتين إلى التعاون، ناهيك عن التلاحم، من أجل بناء مجتمع متمدن حضارياً، تتعايش فيه الطوائف بشكل سلمي راق، ويرفض أيَّ شكل من أشكال نفي إحدى الطوائف للأخرى. وما هو أسوأ من ذلك هو حرمان هذا السلوك المؤسسات المجتمعية من الترويج لمفهوم المواطنة الصالحة، دع عنك تحقيقها على أرض الواقع.
2 - صعوبة التحري عنها واستحالة مراقبتها، من أجل محاربتها ووضع حدٍّ لها، فهي تمارس في أضيق نطاق، عندما يجري الحديث عن الحيز الذي تتم فيه عملية زرع البغضاء الطائفية، الذي لا يتجاوز الفصل الدراسي، أو مجموعة من الطلبة والمدرسين، لكنها واسعة الأفق عندما ندرك أن الأمر غير محصور في فصل دراسي بعينه، أو مدرسة معزولة بمفردها، بل من الطبيعي والمتوقع، أن يتسع كي يشمل كل مدارس البحرين، ناهيك عن معاهدها وجامعاتها. ويزداد المرء سوءاً عندما نأخذ في الاعتبار انتقال الظاهرة من المساحة الدراسية إلى الفضاء الأسري.
3 - آثارها المستقبلية المدمرة، حيث تغرس تلك المسلكيات التربوية الخاطئة، نبتة خبيثة في نفوس، ومن ثم عقول أطفال اليوم، والذين هم شباب المستقبل. وبالتالي فنحن نهيئ جيلاً من الشباب المنخور من الداخل بفعل الأوبئة الطائفية. وسوف يكتشف مجتمع المستقبل البحريني، وليس الحاضر فقط، أنه منقسم على نفسه طائفياً، ومشطور إلى نصفين، لكل منهما همومه الخاصة، وثقافته المختلفة. وبالتالي فلن تنحصر الآثار السلبية لما تقوم به معاول الهدم الاجتماعي والثقافي التي تمارس أدوارها الموبوءة دونما هوادة اليوم في الحاضر المعاش، بل ستمتد ويتسع نطاقها كي تشمل أيضاً المستقبل المنظور.
4 - تداعياتها الوظيفية السيئة، فطالما لا يمكن أن تكون هناك مدارس مستقلة لكل طائفة على حدة، فمن الطبيعي أن نجد الاختلاف الطائفي حاضراً في العلاقة بين المدير والمدرسين، وبين هؤلاء الآخرين والطلبة الذين يتلقون علومهم على أيديهم، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، كيف بوسع مدير من طائفة أن يثق في سلوك مدرس ينتمي للطائفة الأخرى؟ هذا على مستوى العلاقات الإدارية، لكن ما هو أسوأ من ذلك، هو كيف يتسنى أن يثق والدان في مدرس من الطائفة الأخرى أن يقوم على تدريس أبنائهما، ويتولى تصحيح أوراق امتحاناتهم، دون أن يكون منحازاً للطائفة التي ينتمي إليها؟ سيتسع نطاق التخريب الوظيفي كي ينتقل من الإدارات المدرسية الضيقة نسبياً، كي يشمل الفصول المدرسية اللامحدودة اجتماعياً.
5 - تشويهاتها النفسية البنيوية، إذ سيجد التلميذ، وفي المراحل المتقدمة الطالب، نفسه أمام منظومتين فكريتين متصادمتين، الأولى في المؤسسة التعليمية، والأخرى في البيئة المنزلية، لكل منهما أعرافهما الخاصة، وقيمهما المختلفة، ومن الطبيعي أن يقود ذلك إلى تنشئة موجات متلاحقة من أجيال تعاني من انفصام في الشخصية، وعدم الاستواء في المسلك. والمحصلة النهائية لذلك هو مجتمع أعرج غير قادر على السير السوي في الطريق، أيّاً كانت تلك الطريق.
ولكي نكون موضوعيين، ينبغي أن نزيل من أذهاننا إمكانية إلقاء المسئولية على سعادة وزير التربية والتعليم وحده، فمحاربة الطائفية مهمة وطنية شاملة، ينبغي أن تتضافر القوى المجتمعية كافة لمحاربتها، فهي في نهاية الأمر، ليست قراراً فوقياً معزولاً، ولا إجراءً إدارياً يتيماً. من هنا يجب أن تتحول محاربة الطائفية، في ظل الظروف التي أفرزتها الأحداث الأخيرة، إلى سياسة متكاملة على مستوى الدولة، وبرامج عمل متواصلة تعم كل المؤسسات التربوية، بما فيها تلك غير الحكومية، هذا إن أردنا أن نزيل الطائفية من سلوكنا، ونمحي أفكارها من أذهاننا، انطلاقاً من قناعتنا الراسخة بأن التربية الطائفية هي من أخطر أمراض العصر وأشدها فتكاً بالتطور الاجتماعي، والتقدم السياسي، والنمو الاقتصادي
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 3138 - الأحد 10 أبريل 2011م الموافق 07 جمادى الأولى 1432هـ