هل حاولتَ يوماً أن تُمسك بالهواء؟ أو أن تراه مُجرداً دون ألوان؟ ربما حاولتَ وباءت محاولاتك بالفشل، ولكن الغالب أن هذه الفكرة لم تخطر ببالك. فالهواء في كل مكان ولا يُقلقنا غيابه، بل ما يقلقنا هو تلوّثه، أما المكان الذي يخلو من الهواء فإنه يخلو من الإنسان، ليس لحاجته إليه فقط، ولكن لأنه مؤمن بتلك الفكرة، فإيماننا ببعض الأشياء يكون أكثر صدقاً من حاجتنا إليها.
انظر حولك وحاول أن تحصي الأشياء التي لا تأبه بوجودها، والتي في نفس الوقت، لا تستطيع أن تستغني عنها، كالماء والشمس والأسرة والأصدقاء. أشياء تمر بنا كل يوم دون أن نتوقف عندها، لا لأنها ليست ذات أهمية، ولكن لأنها حاضرة على الدوام، وأحياناً يشعرنا حضورها بالضجر فنرجو غيابها، عندها فقط نكذب على أنفسنا، لأننا نتمنى ما لا نتمنى، فقد نستطيع أن نعيش دون بعض هذه الأشياء إلا أننا لن نستطيع أن نحيا دونها.
هناك أشياء نحاول التحرر منها دون أن نعلم بأنها تشكل جزءاً من وجودنا، كالآثام على سبيل المثال، فآثامنا جزء من تاريخنا، من متعتنا ومعاناتنا، من رغبتنا وحسراتنا، إلا أن الحياة لا تستقيم دونها، ولولا الآثام لما استشعرنا لذة التوبة، فبعضنا يقترف الآثام لأنه يحتاج إلى المتعة، وبعضنا يقترفها لأنه يحتاج إلى التوبة، ولو غابت الآثام لتشابهنا جميعنا ولأصبحت الحياة مملة جداً، تخلو من تحديات، ومِن نجاح وفشل.
قد تنسى وجود شخص ما في حياتك حتى وهو يعيش معك، لأنه يمنحك كل الأشياء، ويهبك أكثر مما تتمنى، فتزيد عندها رغباتك عن حاجاتك، وإذا بلغت تلك المرحلة فإنك تصبح فقيراً جداً، لا إلى الأشياء، ولكن إلى الاستمتاع بها، وهذه هي حالتنا مع الهواء، نحتاجه ولكننا لا نعرف كيف نستمتع به، بل الأقسى هو أننا لا ندري لماذا نريد أن نستمتع به.
إن فقداننا الحاجة إلى الأشياء الجميلة في حياتنا يخنقنا، إلا أنه لا يميتنا، ولو أماتنا لتعلّمنا، ربما، كيف نحتاج إليها. هل تعلم لماذا يتنافس الرسامون على تصوير الجمال؟ لأنه نادر وشحيح، ولذلك يسعى الإنسان لتخليده. لم يأبه الإنسان بحيوان الباندا يوماً، إلا أنه عندما أصبح عرضة للانقراض، صار حديث الأخبار والصحف، وأُنشئت مِن أجله المؤسسات والجمعيات الخيرية. ترى كم هي الأشياء التي تحتاج في حياتنا إلى جمعيات خيرية حتى نتذكر وجودها؟
عندما نحصل على ما لا نريد نفقد الحاجة إلى ما نريد، فكثيرة هي الأشياء التي نملكها دون أن نستفيد منها. افتح دولاب ملابسك، أدراج مكتبك، والمخابئ الصغيرة في سيارتك، وستتفاجأ بأشياء تقبع هناك منذ سنوات دون أن تعلم بوجودها، وقد تكون بعض تلك الأشياء جديدة ولم تفتح بعد، وستُدهش عندما تدرك بأنك احتجتَ إليها مرة ولكنك نسيت أنها موجودة لأنك تملك أشياء أخرى أقل أهمية، عندها، يعتاد الإنسان الاحتياج إلى صغائر الأمور، وتصبح طموحاته على قدر حاجاته، وتبقى الأشياء الكبرى والأفكار العظيمة حبيسة المجهول، فيصير الإنسان عدو ما يجهل حقاً، وكل ما يملك فعله هو التفاعل مع الأشياء مِن حوله، مثل الدمية التي تصفّق كلما سمعت صوتاً عالياً، وعندما يتحول الإنسان إلى دمية فإنه يفقد القدرة على الاختيار.
إن عدم القدرة على رؤية الهواء هي فكرة وهمية أقنع الإنسان بها نفسه منذ بدأ يكتشف الحياة بالوسائل العلمية، فلسنا في حاجة لرؤية الأشياء لنؤمن بها، إلا أننا عندما نؤمن بالأشياء فإننا نراها حقاً. حاجتنا للهواء لا تنتهي ولكننا ننسى أن نحتاج إلى تلك الحاجة، وننسى أيضاً أن نحب الهواء ونقدّره، فيتشابه حينها الهواء مع كل الأشياء التي لا نأبه برحيلها.
إن الأشياء مثل الأفكار، لا تفقد معانيها حتى يتوقف الإنسان عن التفكر فيها. وأجمل الأفكار في حياتنا هي تلك التي نفتقدها قبل أن نستشعر وجودها، وإذا ما حصل ذلك فإنها تصبح جزءاً من حياتنا حتى قبل أن تتحقق، كالأطفال والنجاح.
أن ننسى الأشياء المهمة لا يعني أنها لم تعد ذات قيمة، بل يعني أننا قررنا التعلق بأشياء أخرى، وأحياناً دون أن نشعر باتخاذنا لتلك القرارات. عندما نبدأ بالتعرف على الأشياء الجميلة مِن حولنا فإننا نُغرق في الانسجام بها، ونبدأ بالتعرف على الحياة حقاً، فبدايات الأشياء تكون ممتعة حتى وإن لم تكن جميلة، وعلى رغم ذلك فإن الإنسان يتذمّر من البدايات، وإذا ما وصل إلى النهاية أدركَ بأن البداية لا يجب أن تكون كبيرة لكي تكون النهاية عظيمة، بل إنه في كثير من الأحيان، كلّما صغرت البداية وكانت مخلصة، كانت النهاية تاريخية وخالدة. وليس شرطاً أن تكون النهايات مدوّية لكي تكون مؤثرة، بل إن أجمل النهايات هي أكثرها هدوءاً.
عندما يغيب الهواء، أي الأشياء المهمة في حياتنا، تتوقف العقول عن العمل، وتعجز الأحلام عن النمو، فتصاب المجتمعات بالشلل، وتنتشر الكلمات المكررة، والأفعال المفرغة من كل شيء حتى من الفعل ذاته. سألني أحدهم عن تعريف الهواء فقلت له: «الهواء هو الفكرة التي لم تراود عقولنا بعد»
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3135 - الخميس 07 أبريل 2011م الموافق 04 جمادى الأولى 1432هـ