ان من اهم اسباب ازمة السياسة في الوطن العربي فهمنا وتعاملنا مع تاريخنا، فإننا نركز في كتابة تاريخنا على الانتصارات والفتوحات ونفخر ونعتز بها، أما الفشل والهزائم فلا نعترف بها ولا نسميها بأسمائها بل نسمي الهزيمة نكسة ما يفقدها مدلولها ويبعدنا عن التحليل الصائب، فمن منا لا يعرف كيف فتحنا الاندلس وكيف احرق طارق بن زياد السفن لإحباط اية محاولة ارتداد من قبل مقاتليه. ولكن القليل منا من يعرف كيف هزمنا وخرجنا من الاندلس، والمشكلة هي ان الانسان يتعلم الكثير من اخطائه والقليل من نجاحاته. لذلك تنصب جهود المؤرخين الانجليز على معرفة اسباب انهيار الاستعمار والامبراطورية الانجليزية التي لم تغب عنها الشمس ذات يوم. وذلك من مبدأ التعلم من الخطأ للمستقبل.
من هذا المنطلق سأركز على السلبيات لاداء الحكومة في ظل الحياة البرلمانية الجديدة التي تعيشها مملكة البحرين، على رغم ان الايجابيات اكثر بكثير من السلبيات، بل وفي الواقع ان السلبيات كما سنرى اجرائية وليست جوهرية. وبصفتي عضوا في مجلس الشورى ارجو ان اوفق في طرح النظرة النقدية البناءة من الداخل، اي من داخل التعامل مع الحكومة في البرلمان.
لذلك وبما ان الموضوع يقسم إلى سلبيات وايجابيات، فإنني سأركز على السلبيات على رغم ان الايجابيات، كما ذكرت، اكثر بكثير من السلبيات.
السلبيات:
الموضوع الاول
مشروع القرض الحكومي بقيمة 500 مليون دينار لتمويل مشروعات استثمارية. ان هذا المشروع ذو اهمية حيوية للاقتصاد البحريني وان وزارة المالية اتمت جميع الاجراءات بدرجة عالية من الكفاءة للحصول على افضل العروض إلا ان تقديم الحكومة الموقرة المشروع إلى مجلس النواب بصفة الاستعجال كان خطأ، فلا يمكن ان تتقدم بمشروع قرض بقيمة تساوي تقريبا ربع دخل الدولة بصفة استعجال إلا في الحالات الطارئة، ولم يرفق مع المشروع ما يدل على حالة طارئة. وهذه الصفة «صفة الاستعجال» جعلت اعضاء مجلسي الشورى والنواب يشعرون بأن الحكومة تنظر إلى المجلسين على انهما تحصيل حاصل. وفي الواقع قد يكون هناك بعض الافراد في الحكومة لديهم هذه النظرة او الاعتقاد، ولم يدركوا بعد بأن تطورا مهما حدث وان البحرين دخلت مرحلة جديدة من حياتها السياسية. وعندما رفض مجلس النواب هذه الصفة المستعجلة اضطرت الحكومة إلى سحب صفة الاستعجال.
ادت هذه الربكة إلى عدم استقرار في الرأي لدى كل الاطراف ما دفع مجلس النواب تدريجيا إلى اتخاذ الموقف السلبي من مشروع القرض وخصوصا ان هناك الكثير من التفاصيل لم ترفق مع المشروع. إذ اعتمدت الحكومة على التفسيرات والشرح الشفوي من وزارة المالية والاقتصاد الوطني للجان المجلسين المختصة. لذلك رفض مجلس النواب المشروع في مناقشته الاولى، ولا لوم على النواب في ذلك، فإنها التجربة الاولى والمحك الاول.
فإذا ما تمت الموافقة على المشروع بهذه الآلية فإن ذلك قد يصبح عرفا. هذا هو جوهر القضية، اما المناقشات فقد انصبت على امور كثيرة منها الفوائد والربا وغيرهما.
أما مجلس الشورى فقد استفاد من مناقشات مجلس النواب لمشروع القرض وأيقن ان المشروعات الثلاثة المقترض لشأنها وتمويلها في غاية الاهمية. فعلى سبيل المثال مشروع «الفورمولا 1» مشروع استثماري سيخلق آلاف الوظائف وسيضع البحرين في مكان بارز على الخريطة الرياضية العالمية. كما ان الجهات المختصة بالمشروعات مثل مؤسسة الشباب والرياضة استفادت من الوقت وقامت بتوزيع معلومات مهمة على أعضاء مجلس الشورى. لذلك فإن التصويت على مشروع الاقتراض بين المجلسين اختلف بواقع الوقت والمعلومات الموفرة للمجلسين وبسحب صفة الاستعجال.
لذلك فإن الخطأ الاجرائي الذي ارتكبته الحكومة كاد إما ان يخلق ازمة بين المجلسين او ان يفوت على البحرين فرصا استثمارية في غاية الاهمية.
الموضوع الثاني
نقص المعلومات التي تتقدم بها الحكومة إلى المجلسين. ونقص المعلومات هذا ينصب في ناحيتين، الاولى في المشروعات بقانون التي تقدمها الحكومة، والناحية الثانية في اجابات بعض الوزراء على اسئلة موجهة اليهم من اعضاء مجلسي الشورى والنواب.
ففي الحالة الاولى، ودليل قاطع على ذلك ما ذكرناه بشأن مشروع الاقتراض بمبلغ 500 مليون دولار، فلم توفر الحكومة الموقرة معلومات اساسية عن المشروعات، وكلفتها، وكيفية سداد الدين، وكم مدة السداد، وكم متوقع ان يجني كل مشروع على حدة من ارباح استحداث وظائف... الخ.
والمشكلة، بعيدا عن مشروع الاقتراض، ان كل مشروع تتقدم به الحكومة إلى المجلسين لابد أن تُطرح من الاعضاء مسألة نقص المعلومات. وهذه الامور مسجلة في مضبطات المجلسين.
لذلك اعتقد ان الحكومة الموقرة في حاجة إلى ترسيخ اجراءات محكمة لتقديم مشروعات بقانون إلى المجلسين. وانه يجب ان يتم التمرس الدقيق الممل على هذه الاجراءات.
الموضوع الثالث
الهوس الاعلامي وضياع الصدقية. لا ارى سياسة او استراتيجية محكمة للوزارة (بمعنى الحكومة) فلو قمنا بتحليل التصريحات للوزراء - وأركز على انهم سلطة تنفيذية - خلال العام الماضي سنلاحظ ان التصريحات تدل على ان كل وزارة تصرح في واد بعيد عن الاخرى. وهنا لا اعني التصريحات التي تصدر عن مجلس الوزراء الموقر ولكني اركز على تصريحات الوزراء وخصوصا عندما تعنى هذه التصريحات بطرح مشروعات. فلو قيّمنا التصريحات التي طرحت مشروعات منذ العام الماضي فلن نجد إلا القليل منها نفذ او في طور التنفيذ. وهذا يضيع صدقية لا الوزارة المعنية فحسب بل الوزارة بمعنى الحكومة. إذ ان فشل او ضياع صدقية وزارة من الوزارات او وزير من الوزراء في الدول ذات الديمقراطية العريقة يعني فشل او ضياع صدقية الحكومة. لذلك يجب ان نبدأ بممارسة هذا الاسلوب من الحياة السياسية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر: ماذا يعني ان يقوم احد الوزراء بالتصريح عن مشروع قد تزيد كلفته على موازنة وزارته وبعد اسبوع او اثنين من اعتماد مجلسي الشورى والنواب موازنة الحكومة للعامين 2003 و2004م؟
فكثرة التصريحات تضيع الصدقية وتطرد الاستثمارات من المملكة ولا ترحب باستثمارات جديدة. وأفضل درس تاريخي يجب ان نتعلم منه هو الانظمة الاشتراكية في العالم في الستينات والسبعينات إذ ادت كثرة التصريحات بالمشروعات إلى ضياع صدقيتها وسقوطها بوصفها أنظمة اقتصادية في الثمانينات.
فمن باب اولى ان تتم دراسة المشروع وجدواه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وكلفته وامكان قيامه في البحرين ثم تبدأ العجلة الاعلامية تدور لدعم المشروع. أما ان نقول انه من باب الشفافية ان نطرح ما نريد ونقول ما نريد ولا ينجز شيء فهذا خطأ.
والواقع يحتم علينا ان نقتدي بجلالة الملك المفدى، فمنذ توليه قيادة البلاد لم يصرح بشيء إلا وتم تنفيذه، بل وبالعكس يتم تنفيذه قبل موعده، وأكبر دليل على ذلك الانتخابات التشريعية التي كان من المقرر لها ان تكون في العام 2004م واليوم وقد انتهينا من دور الانعقاد الاول فقد سبقنا ذلك الموعد بعامين.
الإيجابيات
ان الايجابيات في اداء الحكومة - كما ذكرنا - أكثر بكثير من السلبيات، إذ ان السلبيات محدودة واجرائية. أما الايجابيات فيصعب حصرها، فهي تمس العلاقة بين الحكومة واعضاء الحكومة واجهزتها وبين مجلسي الشورى والنواب من جهة وبين المجتمع المدني من جهة اخرى. فتعاون الحكومة مع المجلسين يشاد به، وقلة من ديمقراطيات العالم تشهد مثل هذا التعاون. ويبدو ان الحكومة والمجلسين في حماس شديد لانجاح التجربة ومسيرة جلالة الملك الديمقراطية. كما نلاحظ ان هناك تطورا في اداء الحكومة في المجتمع وهو ازدياد عنصر الرعاية للمجتمع، وهذا تفتقده مجتمعات كثيرة في العالم.
ونجد ان هناك تناغما فعالا وتفاهما بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وذلك بهدف الانجاز والتطور والرقي بالمجتمع.
الخلاصة:
1- ان سلبيات اداء الحكومة تتمثل في اخطاء اجرائية، لذلك اتوقع ان تتجاوز الحكومة هذه الاخطاء في دورات الانعقاد المقبلة.
2- لا ينذر الوضع القائم بأية ازمة برلمانية على المدى القريب. فأعضاء مجلسي الشورى والنواب واعضاء الحكومة في حال فريدة من التفاهم والاحترام المتبادل، وقد يكون لطبيعة اهل البحرين دور في ذلك.
3- لكن توقعاتي للمستقبل القريب ان تواجه الحكومة الكثير من العقبات، وان تقع في الكثير من المطبات بسبب عدم وجود مخطط موحد والافتقار إلى الرؤية المستقبلية. فعلى سبيل المثال مشكلة كابلات بتلكو وتعارضها مع مشروع الجسور، التي نشر عنها في الصحف حديثا، وعن كلفة تحويل الكابلات تعرض المسئول للمساءلة، وتكشف هذه المشكلة النقاب عن عدم وجود مخطط، بمعنى (Master Plan) لكل مدينة او لمملكة البحرين ككل. ومثل هذا المخطط يوضح ما هو شكل البحرين ومدنها بعد خمس وعشر وعشرين وخمسين سنة من الآن، وأين سيحدث الدفان وإلى اي حد ومتى سينتقل إلى المناطق الاخرى وهكذا..
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله منصور"العدد 312 - الإثنين 14 يوليو 2003م الموافق 14 جمادى الأولى 1424هـ