تحرص الدول المتقدمة على إنشاء العديد من المعاهد العلمية ومراكز الأبحاث، ولقد واجهت البحرين كدولة ناشئة في مجال الإصلاح السياسي معضلة ترتبط بالتصورات لدى النخب السياسية، ناهيك عن كثير من الكوادر والقطاعات الشعبية. وجاء دور الدول الأجنبية، وبخاصة الولايات المتحدة في إرسال مبشريها بالديمقراطية والإصلاح.
بالطبع هذا التبشير كان على الطريقة الأميركية، ومرتبطاً بأجندتها السياسية، وأدى ذلك إلى التوتر بين بعض القوى السياسية، وبعض الدول، وبين قطاع معين من المعنيين بالسياسة الأميركية، حيث كان مدير المعهد الديمقراطي الأميركي في البحرين فوزي جوليد شخصية نشيطة، وله أساليب عديدة تجعل الناس يرغبون في الانضمام إليه ومساندته، ولست في مقام تقييم تلك التجربة ما لها وما عليها، ولكن فقط الإشارة إلى تصادم أنشطة المعهد مع عدد من القوى السياسية الوطنية البحرينية التي لا ترى إمكانية استيراد التجارب الديمقراطية من الدول الأخرى، إذ إن هذه التجارب يجب أن تنبع من داخل الوطن، في حين، تعاطفت قوى سياسية أخرى مع جوليد وتجربته، على خلاف المعتاد في الدول النامية بالترحيب بتدخل أجنبي للمساعدة في بناء الديمقراطية من قوى سياسية من المفترض أن نشأتها الإيديولوجية تتناقض مع الفكر الأميركي.
ومن هذه التجربة الأجنبية، نبعت تجربة وطنية أصيلة هي تجربة إنشاء معهد البحرين للتنمية السياسية العام 2005م، ومنذ اليوم الأول واجهت هذه التجربة نوعين من ردود الفعل السلبية، أولهما: اعتبرت تجربة رسمية حكومية، ومن ثم حدث تشكك في صدقيتها من قبل قوى مجتمعية معينة، وثانيهما: إدارة المعهد التي لم يكن محظوظاً ولا موفقاً في اختيارها في السنوات الأولى ما أثر على صورة المعهد.
ولكن تغيرت هذه الحالة مع تعيين مجلس أمناء جديد فيه نخبة من الشخصيات الأكاديمية والسياسية من الطائفتين الكريمتين، وبتعيين عيسى الخياط مديراً تنفيذيّاً للمركز.
وأصبح كثيرون يترقبون ماذا سيحدث؟ وكيف سيتصرف المركز؟ ويتشككون في مسيرته، وخاصة أن رئيس مجلس الأمناء أو المدير التنفيذي ليسا من المتخصصين في قضايا التنمية السياسية، ولم يكن لهما دور واضح في النشاط السياسي في الماضي.
إلا أن ما حدث خلال العامين الماضيين كان هو العكس تماماً، إذاً كان المطلوب ليس خبيراً في السياسة، وإنما خبير في الإدارة، لأن الإدارة هي أساس التقدم في جميع المجالات بما في ذلك السياسة والاقتصاد، ومن ثم أخذ المعهد ينمو تدريجيّاً من خلال عدة آليات:
الأولى: نشر تحليلات عن مفاهيم التنمية السياسية، وما يتصل بها من فكر سياسي في الصحف المختلفة بهدف نشر الثقافة السياسية.
الثانية: عقد ندوات في المناسبات العامة عن قضايا محددة مثل الحوار الوطني، والميثاق، ودعوة مشاركين إلى التحدث فيها غالبيتهم من أبناء وبنات الوطن.
الثالثة: عمل إعلانات في وسائل الإعلام المختلفة عن أنشطته، وبعض شعاراته، وأطروحاته العملية لنشر الوعي الثقافي في المجال السياسي.
الرابعة: إصدار سلسلة من الكتيبات والنشرات تتناول القضايا السياسية والاجتماعية بحيادية ومهنية عالية.
الخامسة: دعوة خبراء من دول عربية في إطار برامج التدريب والتثقيف السياسي من ذوي الفكر العميق، والاتجاه المعتدل والعقلاني، وخاصة في فترة الإعداد للمشاركة في الانتخابات النيابية والبلدية.
وهكذا عبر تلك الآليات وغيرها أخذ معهد البحرين للتنمية السياسية يبني له ركائز في المجتمع بأسلوب هادئ بعيداً عن الصخب الإعلامي أو الشعارات السياسية، وقد نجح المعهد في اختيار عدد من قياداته والعاملين فيه من الطائفتين الكريمتين من ذوي الوعي والإدراك بقضايا المجتمع، وكيفية التعامل معها بعقلانية، فضلاً عن الخبرات العربية المتميزة.
ومن وجهة نظري كمراقب للبحرين وأكرر ذلك دائماً، إنه لن تبني أية دولة سوى كوادرها الوطنية، ولن يحقق التقدم لها سوى سواعد أبنائها وبناتها، وهذا لا يعني دعوة إلى الانعزال، فالانفتاح في عصر المعلومات والفضائيات ضروري على العالم الخارجي، والاستفادة من الكفاءات الأجنبية أمر متعارف عليه، بل إن تجارب الأمم التي تقدمت قامت على سواعد من خبرات أجنبية تفاعلت مع السواعد الوطنية، ولم تقم مقامها.
ولقد لفت نظري ودهشتي على سبيل المثال، عندما زرت مبنى البنك المركزي الصيني في قلب العاصمة (بكين)، أن المهندس الاستشاري الذي قام بتصميمه فرنسي الجنسية، وتساءلت أليس لدى الصين مهندسون على مستوى عالمي؟
قالوا: نعم، ولكن المبنى طرح في مناقصة عالمية لاختيار أحسن التصميمات وأفضل العروض، ومن هنا حدث ويحدث تزاوج بين الخبرات الوطنية والخبرات الأجنبية.
وأقول ذلك بمناسبة حوارية معهد البحرين للتنمية السياسية قبل نحو شهر عن العقد الأول لميثاق العمل الوطني، وهي حوارية جيدة، وتمثل بداية طيبة، يجب البناء عليها وتطويرها بمزيد من المشاركة من قبل القوى السياسية المختلفة التي عليها أن تتفاعل مع المعهد بإيجابية لتعزيز أنشطته لمصلحة المجتمع ككل، بهدف تعميق الهوية الوطنية والانتماء الوطني، لأن ذلك هو ركيزة البناء المستقبلي.
وفي تقديري كمراقب أن معهد التنمية السياسية نجح إلى حد كبير في أن يرسم لنفسه طريقاً هادئاً في أرض مازالت بكراً، وهي مجال التنمية والثقافة السياسية التي هي ضرورة مجتمعية لتحقيق التقدم، وتعميق الوعي، وبناء أسس منطق الحوار المجتمعي، وتفاعل قواه السياسية من مختلف الأطياف.
ولكن اليوم في ظل الأوضاع والمستجدات في البحرين، فإنني أعتقد أن على المعهد مسئولية جديدة تتمثل في ثلاثة أبعاد:
الأول: تكثيف أنشطته لمواجهة الحشد الطائفي في المجتمع، وإحياء مفهوم الدولة المدنية التي تعتمد مبدأ المواطنة والانتماء كقاعدة محورية للنظام السياسي.
الثاني: تعزيز مفهوم الاحتكام للحوار، ومفاهيم الاعتدال والتسامح، وهي مفاهيم إسلامية وعربية أصيلة، لكننا افتقدناها منذ عقود مضت، واليوم المجتمع العربي عامة، والبحريني خاصة أكثر احتياجاً لها.
الثالث: بناء قواعد مجتمعية على مفاهيم الدولة المدنية الحقيقية، التي هي في جوهرها مبادئ إسلامية، كما برزت في دستور دولة المدينة في عهد الرسول الكريم، وفي المواثيق الدولية المعاصرة لحقوق الإنسان التي ترفض مفاهيم التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو الطائفة أو العرق أو الجندر أو أية معايير أخرى غير الكفاءة، وتؤكد أهمية الانتماء إلى الوطن كنقطة انطلاق وحيدة للعمل السياسي، وترفض أية تدخلات خارجية مباشرة أو غير مباشرة في شئون سياسة الدولة أو في أمورها الداخلية
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3119 - الإثنين 21 مارس 2011م الموافق 16 ربيع الثاني 1432هـ