في جلسة ثنائية ضمتني مع الأخ الكريم خالد عبدالله، تجاذبنا فيها أطراف الحديث حول الأوضاع المتأزمة القائمة في البحرين، والأجواء المتشائمة التي تسيطر على نقاشات المواطنين، والسيناريوهات المحتملة، التي يمكن أن يؤول لها الاحتقان الفارض نفسه على أطراف الصراع كافة، كنت أحاول أن أرسم صورا لكل الحلول المتوقعة التي يمكن أن تلجأ إليها السلطة التنفيذية من أجل معالجة الأوضاع الآخذة في التعقيد مع مضي الوقت. كنت أحاول أن أشخص موازين القوى وأقوم بتحديد معادلة تدخلها في تحديد مسار الصراع المحتدم اليوم، والذي لم يعد محصورا في «دوار اللؤلؤ».
فاجأني خالد بسؤال غريب غيّر مجرى الحديث برمته. كان السؤال: ما هو في اعتقادك السبب الرئيسي الذي قادنا إلى ما نحن فيه، وأوصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ سردت مجموعة من الأسباب التقليدية من مستوى: تردي الأوضاع الاقتصادية، تغذية النعرات الطائفية، التجاوزات الدستورية. حاولت أن أدغدغ خلفيته الاقتصادية المشربة بخبرة مالية، فتطرقت إلى الأزمة المالية العالمية، وانعكاساتها الإقليمية، وعلى وجه الخصوص القطاع المصرفي في البحرين... ظل خالد صامتا إلى أن انتهيت من قائمة أسبابي، ثم انقض عليها بسبب مختلف تماما. يقول خالد إنه من خلال متابعاته للأحداث، فإن «السبب الرئيسي يكمن في مستوى التوافق السياسي بين طموح المواطن لتحقيق أهدافه المشروعة، ومدى استعداد السلطة التنفيذية لتقديم التنازلات التي تحفظ لذلك المواطن الحق والإمكانية في الوصول لتلك الأهداف».
استرسل خالد في شرح وجهة نظره مشخصا محطات مميزة في التاريخ السياسي المعاصر للبحرين، مستعينا ببعض الأمثلة الحية التي تعزز صحة ما ذهب إليه. يقول خالد «في العام 1965، وعندما تجاوز الاحتقان السياسي والاجتماعي بين المواطن والسلطة (التوافق السياسي) القائم حينها، لم تستطع الظروف القائمة في وقتها أن تستوعب التأزم السياسي ذي الجذور الاجتماعية، فانفجرت الأوضاع، وتصاعدت الصدامات، وسقط الشهداء، وتحولت البحرين إلى ساحة صراعات دموية دفع المجتمع ثمنها غاليا على الصعد كافة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية».
مقابل ذلك، وبعد مضي ما يزيد على عقد من الزمان، وعندما استجابت السلطة القائمة آنذاك، لمطالب الشارع البحريني، وبادرت في العام 1973، إلى الدعوة إلى جمعية تأسيسية منتخبة وضعت الدستور الذي حضر لانتخابات «المجلس الوطني»، حينها تطابق «التوافق السياسي» مع طموحات المواطن ومطالبه، فعم الاستقرار السياسي، ونعمت البحرين بشيء من الأمن الاجتماعي. لم يدم ذلك طويلا، وتراجعت السلطة عن التزاماتها، وسارعت إلى خفض سقف «التوافق السياسي»، فاندلعت الاضطرابات من جديد، وجرى إصدار «قانون أمن الدولة»، الذي أدخل البلاد في نفق معتم لما يزيد على ربع قرن من الزمان، كان ذلك «السقف التوافقي المنخفض» الذي حدده «قانون أمن الدولة»، هو الذي حكم العلاقات حينها بين المواطن والسلطة. أدى ذلك إلى الانفجار، وشهدت البلاد المزيد من الانفجارات الجماهيرية في عقدي الثمانينات والتسعينات التي أكدت على دور «انخفاض سقف التوافق السياسي» في تغذية عناصر الاختلاف من أجل تفجيرها، وتجريد المجتمع من كل مقومات الاستقرار الذي هو في أمس الحاجة لها.
ومن القرن الماضي، نصل إلى القرن الحالي، عندما تسلم جلالة الملك سدة الحكم، ودشن مشروعه الإصلاحي، الذي نجح في رفع مستوى «سقف التوافق الاجتماعي» إلى أعلى درجاته، فعزز من ثقة المواطن في السلطة التنفيذية. عبرت عن ذلك النسبة العالية التي حظي بها مشروع ميثاق العمل الوطني، والتي وصلت إلى 98.4 %، واستمر الحال على ما هو عليه من استقرار سياسي، وأمن اجتماعي طيلة السنوات الأربع الأولى من القرن الحالي.
عند تلك النقطة، بدأت القوى التي تضررت من ذلك المشروع السياسي الرائد، مساعيها الخبيثة لإجهاضه، وشرعت في وضع عصيانها في دواليب عجلة تقدمه كي تعيق حركته وتعيده القهقرى نحو الخلف. حينها تضافرت جهود الكثير من منظمات المجتمع الوطني، سوية مع الجمعيات السياسية، فهبت سوية من أجل حماية المشروع، وصد الهجمات المتكررة ضده، لكنها جوبهت بقوى تفوقها قوة، وتحت تصرفها العديد من المؤسسات القمعية التي تساعدها على التصدي لتلك الجهود.
لا يستطيع أحد ان ينكر نجاح جهود تلك القوى الآثمة في تجميد خطوات المشروع الإصلاحي، الأمر الذي كان من شأنه خفض «سقف التوافق السياسي» من جديد بين السلطة التنفيذية وتلك المنظمات والجمعيات المعبرة عن طموحات المواطن، ومطالبه.
تداعت العلاقات بين المعارضة والسلطة التنفيذية جراء ذلك الانخفاض في سقف التوافق، وتصاعدت من جديد أشكال المواجهات، وتطورت رويدا رويدا إلى صدامات عنيفة تكررت بشكل متفاوت خلال السنوات السبع الماضية، وبلغت ذروتها الأولى في مطلع شهر أغسطس/ آب الماضي (في الشهر ذاته من العام 1975، وبعد إغلاق المجلس الوطني، جرى إصدار والعمل بقانون أمن الدولة المشئوم.
استمر التوتر، كي نصل إلى مطلع هذا العام عندما هبت رياح التغيير الذي قاده الشباب على تونس وبعدها على مصر، كي تنتقل إلى البحرين، التي وجدت بين ربوعها التربة الخصبة التي كانت تبحث عنها والتي هيأها لها انخفاض «سقف التوافق السياسي»، بعد أن تراجع المشروع الإصلاحي مثخنا بجراحه التي زرعتها في جسده القوى التي شكل ذلك المشروع تهديدا لمصالحها، وهز نفوذها من الجذور.
وإذا ما وافقنا خالد فيما ذهب إليه، فقد آن الأوان كي يعمل الجميع من أجل رفع سقف التوافق السياسي، كي ننعم بالاستقرار والأمن الاجتماعي اللذين تبحث عنهما كل القوى التي تحب البحرين بصدق، وتحاول ان ترسم معالم لوحتها المستقبلية بريشة مضيئة تقف ضد محاولات خفض سقف التوافق الاجتماعي من جديد.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 3102 - الجمعة 04 مارس 2011م الموافق 29 ربيع الاول 1432هـ
شكرًا
شكرًا على المقال
enogh
i agree with u Dr, the people has demand and the other party has to came down and accept demands their ,