يعيش العالم في هذا الزمن عصر السرعة، السرعة في الحركة والإنجاز والعمل، حتى في الأكل، لكن عندما يحين وقت النوم يتوقف الإنسان ويستسلم لسلطان النوم، حتى يستوفي وقته، وإلا شلت حركته ودمر نشاطه إن زاد أو نقص عن حده.
كل دولة من دول العالم الحديث بنت حركتها وتحركاتها الاستراتيجية والسياسية لمواجهة كل التطورات السريعة، ومتطلبات الاستكانة الضرورية، وحسبت لها ألف حساب، وجهزت نفسها لأشد المواقف ضراوة لتندفع بأقصى السرعة حينما يتطلب الأمر منها ذلك وتخفف من السرعة إذا استدعت الظروف، بل وتتوقف للضرورة.
السياسة فن المناورة في التحرك لهدف، وهي تقود ولا تنقاد، ويجب أن تبني لها جسورا وخطوطا وممرات ثانوية لتحاشي الاختناقات السياسية من جهة ولتؤدي بها إلى الهدف المنشود من جهة أخرى.
الدول لم تتقدم حاملة السياسة على رأسها، بل صنعت من السياسة عربة تمتطيها، وكل دولة وضعت لها خط سير وهدفا وتوارثت على مر الزمن إدخال الإصلاحات على تلك العربة، وجهزتها بكل لوازم الأمان والسلامة، لذلك دارت عجلاتها على الممرات الواسعة والضيقة في أسوأ الظروف من دون الانزلاق أو التصادم أو الانحشار في تربة أو أدغال الممرات السياسية الرديئة.
الدول العربية ـ مع الأسف الشديد ـ فضلت السياسة المعلبة، الجاهزة، والتي هي بمثابة الوجبات السريعة التي لا يستتبعها أذى تحضير، جميلة الشكل لذيذة الطعم، ولكن عواقبها على المدى البعيد تكون وخيمة.
إن السياسة المعلبة التي تتبعها بعض الدول العربية، هي في واقع الأمر استسلام لسلطان النوم السياسي، وترك للبحر وأهواله، ولو خسروا في مقابل ذلك إرادتهم السياسية طالما تيسر لهم ـ ولو بشكل آني ـ الماء والغذاء ولوازم الحياة الفارهة.
الدول العربية ـ مع الأسف الشديد ـ استكانت لدول أخرى «طبطبت» على كتفها في إيقاعات جميلة، مرة تحت الدفاع المشترك، ومرة تحت الحماية الاستراتيجية، وأخرى تحت الشراكة الاقتصادية لإيهامها بالأمان ودفعها إلى الاسترخاء السياسي، أو النوم إن أمكن لتغط في سبات عميق، ولإبعادها عن الحرية الضرورية للإضرار بلياقتها السياسية، وبذلك أصاب تلك الدول الكثير من المشكلات والآلام كأوجاع المفاصل بين فقرات الجسد الواحد، فأصبح تحركها محدودا، وامتلأت أجسامها بهبر اللحم والشحم، يغري الحيوانات المفترسة كلما جاءت أو أرادت افتراس ما حولها من خيرات أو الإغارة على كل دولة من دولها على حدة حتى تتمكن من هضمها جيدا ثم تلتهم الأخرى ولسوف تظل دولنا تتناقض وتنكمش ما لم تصحُ أمتنا وتتمترس خلف دينها وتفتح عيونها جيدا لكي تتمكن من تحاشي أسود وذئاب وضباع الأرض
إقرأ أيضا لـ "علي محمد جبر المسلم"العدد 310 - السبت 12 يوليو 2003م الموافق 12 جمادى الأولى 1424هـ