لا شك في أن البرلمان هو المتنفس الوحيد لأطياف المجتمع المختلفة من العيش بسلام ومساواة وحوار إيجابي، تلتقي فيه الاطياف السياسية وتتبلور فيه الأفكار والبرامج المستقبلية، لتعود بالخير والمنفعة على الأمة، فيسعى البرلمان الى مواكبة الدول المتقدمة في ممارسة الديمقراطية من خلال المشاركة الشعبية، فيشرع ويخطط ويراقب ويصدر تحت قبة هذا المجلس كل القوانين والتشريعات.
قد تبدو الفترة التي قضاها المجلس في العمل النيابي قصيرة بكل المقاييس، خصوصا إذا علمنا أن تغييب الحياة البرلمانية والرقابة الشعبية استمر لثلاثة عقود متتالية سادت فيها ثقافة عدم التعامل مع الآخرين، والاكتفاء بالآراء الاحادية، والحب الزائد لرفقاء الدرب، بل والكل يغني على ليلاه.
والبرلمان الذي بدأ أعماله نهاية العام الماضي يعتبر تجربة جديدة بعد انقطاع دام 27 سنة، ولعل المراقب السياسي لقيام البرلمان يجد أنه جاء بعد التوافق الوطني على الميثاق والدستور، ولكن أصبحت التيارات السياسية في شأن البرلمان بين مشارك ومقاطع.
وقضية المشاركة والمقاطعة، لا شك في أنها ألقت بظلالها على أداء المجلس النيابي ولو بالشيء اليسير، فلا يتنازع اثنان بأن المجلس لا يمثل كل القوى السياسية على أرض الواقع، ولكن يبقى موضوع المشاركة والمقاطعة أمر طبيعي مرت به الكثير من الدول.
ويبقى السؤال الأهم هو: هل التعامل مع البرلمان أمر ضروري مع وجود قضية المشاركة والمقاطعة؟، وهل يجب على المقاطعين أن يقاطعوا المشاركين داخل البرلمان؟ ثم ما ذنب المواطن العادي من كل هذا الأسئلة؟، والجواب على كل هذه الأسئلة هو أن قضية المشاركة والمقاطعة لا علاقة لها بالتعامل مع البرلمان، والسبب هو أن المشاركين والمقاطعين لا خلاف بينهم في هذا التعامل.
وعند الرجوع الى من يرى عدم التعامل مع البرلمان نجده قد حكم على المجلس قبل أوانه فهو يبحث عن كل ما يؤكد تصوراته أو يعزز مواقفه، وأهم المأخذ التي يراها المعارض للتعامل مع البرلمان، ان البرلمان «غير قادر على تحريك الملفات الساخنة» أو انه عاجز أو مشلول.
والفريق الآخر يطالب بالتعامل مع البرلمان وهذا الفريق صنفان، صنف لديه ممثليه السياسيين أو أصدقائه المقربين، والصنف الآخر هو ممن يسعى الى انجاح التجربة البرلمانية فهو لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهذا الفريق بصنفيه لديه وجاهته في الطرح، فهو لا يتشبث بقميص عثمان ولا يبحث لنفسه عن مسمار جحا!.
وعودة الى جوهر الموضوع في التعامل مع البرلمان نجد أن ما قام به البرلمان في الفترة الماضية يتحتم علينا التعامل معه وذلك لعدة أسباب منها أنه قام بتقديم مشروعات برغبة، وتقدم باستجواب الوزراء، والملفات الساخنة التي تثار داخل البرلمان هي في تقديرنا مؤشر إيجابي على جدية الطرح.
إن تجاوب الشارع البحريني مع البرلمان وما يعرض عليه أكد أن هناك اتصالا كبيرا بين البرلمان والشارع، فالمجلس قد برز بروزا واضحا في دورته الأولى وخصوصا استجوابه الوزراء والذين عاشوا سنين طويلة من دون محاسبة أو استجواب، وقضية إفلاس التقاعد والتأمينات، والنقابات كل هذه القضايا تعتبر مهمة ومؤثرة في المجتمع، والملفات الأخرى المطالبة من فئات المجتمع بفتحها مثل موضوع التجنيس السياسي، وملف التمييز الوظائفي، والبطالة، وأزمة السكن، كل هذه الأمور تجعل من قضية التعامل مع البرلمان أمرا ضروريا.
وأعتقد أن بعض القوى المقاطعة المعتدلة بدأت فعلا في البحث عن البديل داخل البرلمان الذي يتبنى قضاياها وينقل تصوراتها، خصوصا أن حال التوجس والخوف التي كانت سائدة بين التيارات السياسية بدأت في الزوال، فبدأنا نرى القوى السياسية خارج البرلمان تتعاون مع من بداخل المجلس في سبيل إيجاد آلية جادة داخل البرلمان للتصدي لملفات الفساد الاداري والمالي والأخلاقي، وأعتقد أن السبب الرئيسي في ذلك يعود الى الأداء الجيد لبعض أعضاء البرلمان في الأشهر الأخيرة ما استوجب التعامل مع هؤلاء النواب.
لذلك يجب التطلع الى انجاح التجربة البرلمانية من خلال التعامل مع أعضائه، والى عقلنة المشاركة والمقاطعة من جديد بحيث لا تؤثر على التعامل مع البرلمان، والمحافظة على المكاسب السياسية التي تمت خلال العام الماضي.
فإذا كان الأمر بهذه الصورة فأننا لسنا في حاجة الى ميزان سياسي جديد لتقنين التعامل مع البرلمان، ومن منطلق مسئوليتي كعضو في مجلس بلدي منتخب، أقول واجهنا الكثير من المشكلات والقضايا في سنتنا الأولى والتي تحتاج الى حل سريع، وسبب المطالبة بحل سريع هو أننا سنكون مرجعية بلدية لمن سيأتي بعدنا، من هنا كانت حاجتنا الملحة الى التعامل مع البرلمان كجهة تشريعية.
ومثال على ما نواجهه في المجالس البلدية من التعامل مع البرلمان: قضية فصل السلطات، ففي حين أننا نسعى الى الحصول على المذكرة التفسيرية لقانون البلديات من خلال السلطة التشريعية، نجد أن هناك من يسعى إلى التعديل من خلال مناشدة السلطة التنفيذية، وقد يكون أحد أسباب هذا الخط هو قضية المشاركة والمقاطعة، أو ما درج عليه كثير من الناس بالبحث عن العطايا من خلال السلطة التنفيذية.
هذا مثال واحد في حاجة المجالس البلدية الى التعامل مع البرلمان، وكلنا ثقة على أن النواب يعملون جاهدين لتحقيق إنجازات ملموسة على رغم كل المحبطات والمعوقات، فالمجتمع المدنى مع ما يحمله من استقرار وطمأنينة ومشاركة شعبية وحرية تعبير، عبر مؤسساته المنتخبة، يسعى الى ترسيخ الديمقراطية العريقة فيها من خلال التعامل مع البرلمان.
فإذا كان أمر التعامل مع البرلمان بهذه الصورة فلابد من أن نعلم بأن التعامل لا يتم بأسلوب الاذلال والاحتقار والتهميش والبحث عن الزلات والسقطات للبرلمان والبرلمانيين، بل لابد من السعي مع البرلمان بـ (الهرولة) البطيئة، والتسلق المتأني، والبحث عن أطواق النجاة، وسبل النجاح، فلا يمكن أن تقام دولة ديمقراطية بين ليلة وضحاها.
ورقة عمل ضمن ورشة «مملكة البحرين في ظل التجربة البرلمانية
إقرأ أيضا لـ "علي الشرقي"العدد 310 - السبت 12 يوليو 2003م الموافق 12 جمادى الأولى 1424هـ