تابعتُ أثناء أحداث تونس ومصر، آراء رجال التيار الديني في المنطقة حول قضية ثورة الشعوب على الطُغاة والخروج عليهم، وعلى رغم وجود نماذج مضيئة من رجال الدين الذين يمثلون صمام أمان للشباب أثناء الأزمات الراهنة، إلا أن هؤلاء الأفاضل لا يُشكّلون تياراً فكرياً ينتج عنه خطاب ديني جديد.
أما التيار الديني التقليدي، والذي يعد الأكثر انتشاراً وتغلغلاً في المناهج والكتب وغيرها من مصادر المعرفة، فإن غالبية رجاله، وليس كلهم، كانوا حجر عثرة في وجه الأحداث الأخيرة. فلقد وصف كبار رجال ذلك التيار - الذين نحترم مكانتهم ونقدر علمهم وفضلهم - الثورة في تونس ومصر على أنها فوضوية إنما جاءت بتدبير من أعداء الإسلام، وأمعنوا في إصدار الفتاوى التي تُحرّم الخروج على الأئمة لما في ذلك من «مفسدة عظيمة جداً».
يمكننا أن نتفهّم بأن الخروج على الحاكم مفسدة عندما يكرّس الحاكم نفسه لخدمة شعبه ودفع عجلة التنمية البشرية في بلاده، كما هو الحال في بعض دول الخليج مثل الإمارات التي تشهد معدلات نمو عالية، أما عندما تمارس الأنظمة الاستبداد في أبشع صوره، فإن الخروج عليها قد يكون الحل الوحيد للحد من معاناة الشعوب، كما شاهدنا في بعض الدول العربية وغير العربية أيضاً.
إن مشكلة الخطاب الديني (السنّي والشيعي) في المنطقة أنه يناقش منذ زمن طويل نفس القضايا المُكررة، كبدعة التبرك بالقبور، وحكم إظهار المرأة لوجهها وكفّيها، وحكم لبس ربطة العنق، وانشغل رجاله بأحكام العبادات التي فرغ العلماء منذ زمن طويل من تمحيصها وتفصيلها، والتي على رغم أهميتها، إلا أنها أَلْهَت الرأي العام عن القضايا الإنسانية الكبرى، كحقوق الإنسان، والعدالة، والحريات، والتنمية الإنسانية. ولذلك، وجد رجال الخطاب التقليدي أنفسهم في مأزق عندما بدأت الأوضاع في المنطقة العربية مؤخراً تتغير بشكل سريع، وعجزوا عن دعم الشعوب التي كانت في أمَسِّ الحاجة إليهم، بل إنهم لم يستطيعوا حتى أن يبثوا الطمأنينة في القلوب المكلومة؛ لأنهم لم يعتادوا أن يتفاعلوا مع قضايا الشارع العربي، وبدل أن يفهموا مشكلات المجتمع ويستوعبوا قضاياه الملحّة، أغرقوه في صراعاتهم مع التيارات والمذاهب الأخرى، وألهبوا فتنة مذهبية بين المسلمين البسطاء. نستثني من ذلك بعض الدعاة والعلماء الذين يبذلون جهدهم في لمِّ شمل الأمة، ودفع أبنائها للعلم والعمل.
إن إحدى مشكلات الخطاب الديني التقليدي في المنطقة أنّه نقل صراعات الماضي إلى الحاضر، وجعل من قضايا بائدة، كقضية خلق القرآن، وصراع الأشاعرة مع المعتزلة، ومشكلة الخوارج، وقضية الصراع بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - قضايا حية تُناقش في المحاضرات وتُفرد لها صفحات الكتب، وحوّلوا الصراع السياسي بين الدولة الإسلامية في التاريخ وأعدائها، إلى صراع ديني مُعاصر، لا يملِكُ المجتمع أن يُنكِره أو حتى ينتقده، لأنه بذلك ينتقد الدين.
واستطاع ذلك الخطاب من خلال إلحاحه وتشعّبه في وسائل الإعلام، أن يعزز نظرية المؤامرة وفكرة العدو الخارجي المتربّص بالأمة، وأصبح الصغير والكبير يتنطع بالدسائس التي يكنها الغرب لأمة الإسلام، حتى وهو يمسك بين يديه اختراعات الغرب، ويلبس منتجات الغرب، ويستهلك تكنولوجيا الغرب، إلا أنه بقي في توجّس من الإقدام على الأخذ بالفكر المعرفي الغربي في كثير من الجوانب الإنسانية، فأخذ القشور وترك اللبّ، في مفارقة حضارية غريبة.
هذه الأدلجة السياسية للخطاب الديني قد فرضت طوقاً فكريّاً يخشى الناس كسره حتى لا يوصفوا بأنهم علمانيين أو ليبراليين كما وُصف كثير من المفكرين والكُتّاب الإصلاحيين في المنطقة، الذين يُتّهمون أيضاً بالتغريبيين والمُخربين لأنهم ينادون بتبنّي بعض المبادئ والممارسات الحضارية التي يُطبّقها الغرب، كحرية الرأي، واحترام الدستور، والديمقراطية، وغيرها من ركائز الدول الحديثة، التي قَوْلبها الخطاب التقليدي في قالبٍ معادٍ للإسلام، وصدرت منه الفتاوى التي تُحرّم تطبيقها في المجتمعات الإسلامية؛ ما منحه مكاسب شعبية قائمة على العاطفة، ومكاسب سياسية أغدقت عليه من بعض الأنظمة التي تستمد شرعيتها منه.
إلا أن الأحداث الأخيرة كشفت بأن الخطاب التقليدي بدأ يتصدّع من الداخل عندما انشق عنه قلّة من رموزه وانحازوا للواقع وتفاعلوا مع آلام المجتمع، أضف إلى ذلك أن الانفتاح العالمي وإفرازات ما بعد الحداثة كالتكنولوجيا والإعلام الجديد، قد أفسح المجال للمفكرين من خارج التيار للوصول إلى نفس المصادر المعرفية التي يلجأ إليها منتسبوه، فاستطاعوا أن يفهموا تركيبته الأيديولوجية من خلال البحث والتبحر في تلك المصادر، ثم طرح هؤلاء المفكّرون رؤى مغايرة للرؤية السائدة في داخل الخطاب التقليدي، وبلغة قريبة من لغة المجتمع، أصبحوا ينتقدونهم ويناقشونهم باستخدام نفس المرجعيات التاريخية؛ ما زعزع كثيراً من المعتقدات السائدة لدى النخبة الثقافية والعامّة، وتشكّل لهؤلاء المفكّرين قاعدة جماهيرية ومدارس فكرية حديثة في المغرب وفي مصر وفي الجزيرة العربية وفي إيران، بدأت، على رغم صغر حجمها مقارنة بالمدرسة التقليدية، تجد لها مكاناً في الشارع الذي شعر فجأة بأن الخطاب التقليدي يُغلّب الرغبة السياسية على الرغبة الشعبية في كثير من الأحيان.
يحتاج الخطاب الديني التقليدي (وهناك فرق بين الخطاب الديني وبين الدين) في المنطقة إلى إصلاح من الداخل، وهذه مهمة رجاله الحكماء الذين لا بد أن يدركوا بأن الشارع الذي كسر حاجز الخوف من الاستبداد السياسي قد أصبح قادراً على كسر حواجز الاستبداد الأيديولوجي. أما مهمة السلطة فهي تكمن في عدم فرض أيٍّ من التيارات الدينية أو الأيديولوجية على المجتمع، ولها أن تترك الجميع يعمل بحرية دون تقديم امتيازات لتيار على حساب الآخر، وليكن القرار للمجتمع الذي يحق له اليوم أن يختار بنفسه.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3095 - الجمعة 25 فبراير 2011م الموافق 22 ربيع الاول 1432هـ
شكرا
احيك يا سيدي و من القلب اقول لك شكرا يا علي روح القلم فيك
أمة واحدة لولا قيود الماضي
إن فكرة المقال لاشك مستحقة للاهتمام بدليل أنه أي المقال يحمل في طياته ما يؤكد سيطرة واستحكام الأمور الخلافية التاريخية في خطابنا وفي مختلف تعاطينا اليومي مع الآخر من حيث نشعر ومن حيث لا نشعر فالكاتب يصف زيارة القبور بالبدعة وهو ما يختلف معه حوله آخرون وأشياء أخرى لا نريد الإشارة إليها حتى لا نحفز للاختلاف.