في العام 2004، كلفت من قبل معهد بروكينغز في واشنطن إعداد دراسة بشان سياسات الولايات المتحدة تجاه المسلمين وانعكاساتها على العلاقات الأميركية - الإسلامية. وقد اخترت في تلك الدراسة (نشرت العام 2005 وهي موجودة على موقع المعهد لمن أراد الاطلاع عليها) على نقطتين مترابطتين: ما سمي بسياسة «كسب العقول والقلوب»، أي نشر الدعاية لتحسين صورة أميركا في العالم الإسلامي، وسياسة نشر الديمقراطية في العالم العربي (والتي سميت بمبادرة الشرق الأوسط الكبير قبل تعديلها عدة مرات، حيث تسمى حالياً الشراكة من أجل المستقبل). وكانت الخلاصة حول القضيتين هي، أولاً: أن ما يسمى بسياسة كسب القلوب والعقول هي في حقيقتها سياسة لغزو القلوب والعقول (وكان هذا عنوان الدراسة) لأنها تركز في حقيقة الأمر على الدعاية لا الحوار، وتسعى إلى تسويق سياسات مرفوضة في الأساس. أما فيما يتعلق بنشر الديمقراطية فلم تكن المشكلة في وجود سياسة فاشلة (أو استعمارية) لنشر الديمقراطية، بل في عدم وجود سياسة أو نية لنشر الديمقراطية في الأساس.
وكان الموقف من تونس أحد أهم النقاط التي استدلت بها الدراسة على عدم جدية واشنطن في نشر الديمقراطية. فقد كان الرئيس التونسي (حينها) زين العابدين بن على أول زعيم عربي يزور واشنطن بعد أيام من تسريب محتوى المبادرة الأميركية للصحف في فبراير/ شباط العام 2004، مما دفع الإعلام والناشطين العرب إلى اعتبار أن هذا أهم اختبار لجدية وصدقية المبادرة. وقد طالبت منظمات حقوقية الرئيس بوش بتوجيه رسالة قوية لبن علي بخصوص ممارسات نظامه القمعية، بينما كتب أحد الناشطين التونسيين مقالة رأي في صحيفة «النيويورك تايمز» جاء فيها أن بوش يخطئ لو اعتقد أن الديمقراطية يمكن أن تنجح تحت قيادات مثل بن علي الذي جعل من تونس واحدة من أشرس الدول البوليسية في العالم.
وجاء في خلاصة الدراسة استناداً إلى هذه المواقف التي انتقدها الناشطون العرب وغيرهم في تعامل واشنطن الحميم مع دكتاتوريات أخرى في المنطقة على أسس كثيرة ليس من بينها الحرص على الديمقراطية، إن سياسات أميركا المضطربة قد جاءت بأسوأ النتائج الممكنة، حيث أقلقت الأنظمة الصديقة بخطابها الديمقراطي، وأكسبتها عداء قطاعات مهمة على الساحة السياسية وخيبت آمال الناشطين الديمقراطيين. ولو كانت الإدارة الأميركية صادقة فإن تونس كانت أنسب نقطة ممكنة لبداية التحول الديمقراطي في المنطقة، حيث إنها تعتبر البلد الأنضج من أي بلد عربي آخر لتحول ديمقراطي سريع وخال من المخاطر. ويعود هذا، للتوافق الكبير بين النخبة بعد أن أظهر الإسلاميون تمسكاً مبكراً ومستمراً ومقنعاً بالديمقراطية، بينما اتجهت النخبة العلمانية لرفض تلويح النظام بخطر إسلامي مزعوم لتبرير سياساته القمعية والإقصائية التي لم توفر القوى الديمقراطية، علمانية كانت أم إسلامية. من هذا المنطلق، فإن الإدارة الأميركية كان يمكن أن تضفي صدقية أكبر على مبادرتها لو أنها ضغطت بحزم على النظام التونسي وعلى النظم المماثلة في مصر والأردن لتخفيف قبضتها البوليسية. وفي اضعف الإيمان كان على الإدارة الوفاء بالتزام بوش المعلن بالدفاع عن الناشطين الديمقراطيين والحقوقيين.
رفضت الدراسة أيضاً الربط بين سياسة الحرب على الإرهاب وبين تشجيع الديمقراطية من عدة منطلقات، أولها أن الخطاب الذي يربط بين مصالح أميركا ودعم الحرية والديمقراطية هو خطاب مهين للشعوب العربية ويرسل الرسالة الخطأ. وثانيها أن وجود الديمقراطيات لا يوقف الإرهاب، لأن الإرهاب لا يوجد أساساً إلا في النظم الديمقراطية. وإذا كانت أميركا تريد حواراً حقيقياً مع الشعوب العربية والإسلامية، فإنها يجب أن تحترم عقول وكرامة هذه الشعوب، وألا ترسل رسالة بأن الديمقراطية هي منة من أميركا، والمقصود منها خدمة مصالح الغرب. وليس أقل إهانة للشعوب من الافتراض الكامن في مقولات نشر الديمقراطية بأن الشعوب العربية ليست جاهزة لحكم نفسها، وأنها تحتاج لوصاية من «مستبد عادل» يسوقها سوقاً نحو الديمقراطية.
وقد كانت قمة الإهانة أن مبادرة قمة الثماني كما تبلورت في العام 2004 وتطورت بعد ذلك اشتملت على برامج للتعليم والتنمية والنشاط المدني، أي بمعنى آخر برامج للتربية الاجتماعية السياسية، بما يعطي الانطباع بأن الشعوب المعنية هي شعوب بربرية غير متحضرة تحتاج إلى تمدين من قوى خارجية على يد «معلمين» تعينهم أو ترتضيهم القوى الكبرى. فإذا أضفنا إلى هذا مقولة بعض الزعماء بأن تحقيق الديمقراطية سيستغرق أجيالاً، فأي احتقار أكبر من هذا للشعوب ولناشطي الديمقراطية الشجعان الذين يقدمون التضحيات لكي تحيا شعوبهم؟ فمثل هذه الدعوى تعني التواطؤ في استمرار استعباد هذه الشعوب. وإذا كان الغرب صادقاً في احترام الشعوب كما يزعم قادته، فإن هذا الاحترام لابد أن يتواكب مع احتقار أعدائهم من الطغاة.
الحوار مع الشعوب لابد كذلك أن يكون على أساس الندية، وعبر ممثلي الشعب الحقيقيين، وليس عبر جلاديهم أو عبر مؤسسات جوفاء مثل الجامعة العربية. حتى ما يسمى بالتبادل بين الأكاديميين والمنظمات النسوية والشبابية ورجال الأعمال وغيرها لا تكون ذات معنى ما لم تكن المؤسسات الأكاديمية والمنظمات المدنية مستقلة وذات صدقية، لا مجرد واجهات للنظم القمعية الفاسدة التي هي أعدى أعداء الشعوب.
من هذا المنطلق رفضت الدراسة بشكل قاطع فكرة «التدرج» في تطبيق التحول الديمقراطي من منطلق أن الشعوب العربية والإسلامية غير مستعدة لحكم نفسها، كما بشر بذلك أحد رموز المحافظين الجدد فريد زكريا في كتابه «الديمقراطية اللاليبرالية» (2003)، أو بدعوى أن الديمقراطية في أوروبا وغيرها استغرقت قروناً حتى تتشكل. فقد يكون اكتشاف النار استغرق أجيالاً عدة (أو ملايين السنين بحسب البعض) من عمر الإنسانية، ولكن من المستحيل بعد ذلك أن يقال لإنسان يريد قبساً من النار أن ينتظر آلاف السنين حتى يكتشفها بنفسه. أما محاولة زكريا العرجاء للتنظير للسياسة الأميركية القائمة بدعوى تقديم التحول الليبرالي على التحول الديمقراطي فإنها قد تحولت باعترافه إلى دعوة للاستعمار المكشوف غير المستتر، حين استدل بهونغ كونغ باعتبارها النموذج المثالي للتحول الذي يدعو له، علماً بأن هونغ كونغ لم تشهد تحولاً ديمقراطياً بعد.
غني عن الذكر أن الإدارة الأميركية لم تحفل كثيراً بنصائحنا تلك، بل إن برنامجها المزعوم لنشر الديمقراطية تعرض، على نواقصه، لمراجعة جعلته يفقد حتى قيمته الأساسية في تخويف الطغاة، وذلك بعد أن اعترضت عليه قوى أوروبية مثل فرنسا وبريطانيا هي من متعهدي حماية الدكتاتوريات، وكذلك اعترض عليه حلفاء أميركا من المستبدين الذين دعي بعضهم (ويا للغرابة!) لحضور لقاء قمة الثماني في ولاية جورجيا، وتمت استشارتهم فيه. ولو كان البرنامج يسعى بالفعل لدعم تحول ديمقراطي حقيقي لما دعي أعداء الديمقراطية إلى ذلك اللقاء، لأن الكباش لا تستشار في طقوس الأضحية.
ولكنا كنا قد حذرنا في تلك الدراسة وغيرها بأن مثل هذا الأسلوب في الاعتماد على الدكتاتوريات الهرمة والمهترئة لا يشكل استخفافاً بالشعوب فقط، بل هو تهديد حقيقي لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها، لأنها تكون قد بنت مصالحها على شفا جرفٍ، سرعان ما ينهار بما عليه ومن عليه. فالشعوب لن تستشير البيت الأبيض حين تجد ساعة الجد، فقبل ذلك ما سقط شاه إيران بعد أن نصب شرطياً للشرق الأوسط، وأسقط الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري وهو يزور البيت الأبيض (وهو عين ما وقع لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري). فالانحياز للشعوب مصلحة قبل أن يكون مبدأً.
في هذا الاوان، أغنانا الشعب التونسي بانتفاضته المباركة عن تكرار هذه الرسائل، وأبطل بفعله مفعول كل الدراسات والمواعظ. فقد أكدت تونس بالفعل أنها جاهزة للديمقراطية وجديرة بها. فالشعب التونسي لم يستأذن واشنطن ولا غيرها، ولم يلتفت للهراء الذي ظل يصدر من باريس وواشنطن من دعم مغلف للدكتاتورية المتهاوية تحت ستار ضرورة الحوار والحرص على الاستقرار وغير ذلك من عبارات خاوية يقصد بها إعطاء الدكتاتور فرصة ومهلة. ولكن الشعب التونسي لم يعط أي مهلة، حتى للدكتاتور ولا لمحاولة استنقاذ النظام عبر حيلة التفافية كما حدث عندما رحل دكتاتور اثيوبيا الأسبق منغستو هايلي مريام إلى زمبابوي وخلفته حكومة انتقالية صورية، ونفس الشيء حينما رحل شاه إيران إلى الخارج ونصبت حكومة شاهبور بختيار علها تنقذ النظام من الانهيار.
الشعب التونسي، وقبله الشعب السوداني في انتفاضاته الإجماعية في أعوام 1964 و1985، أثبت أن الشعوب ليست هي ما يعوق الديمقراطية، وإنما من يعوق الديمقراطية هم أعداؤها من الطغاة وبطاناتهم الفاسدة التي تزين لهم سوء عملهم، وتتبع مع الشعوب سياسة فرق تسد، ضاربة بعض فئات الشعب ببعضها الآخر. وبهذا المعنى فإن استمرار الدكتاتوريات لا يمكن أن يكون تمهيداً للديمقراطية أو بديلاً لها، لأن الدكتاتوريات لا يمكن أن تعمل من أجل الديمقراطية، بل بالعكس، لأنها تجتهد في كل ما يقوضها. ولهذا السبب فإن الشعوب التي ترزح تحت الدكتاتوريات عقوداً متطاولة تتعرض للتمزق والانهيار مع سقوط الأنظمة القمعية، حتى لو كانت تلك الأنظمة تتزيا بزي الأبوية الناعمة، وتخلق ازدهاراً اقتصادياً خادعاً. هكذا كان حال ساحل العاج وكينيا وزائير والكاميرون والجزائر والصومال ويوغسلافيا ورواندا وغيرها. رسالة تونس لواشنطن وباريس وغيرها من عواصم الغلفة هي إذن واضحة لا لبس فيها. إن الاستهانة بالشعوب العربية والاستخفاف بعقول العرب خطأ وخيم العواقب. الدول العربية ليست مزارع سوائم يتم التعاقد مع سائم يحرسها، بل هي شعوب حية تعرف مصالحها وتعرف ما تريد، وتعرف كيف تحصل عليه. هذه الشعوب لا تحتاج إلى «مدرب أميركي» ليعلمها كيف تنتزع حرية، فالحرية الحقيقية تنتزع انتزاعاً ولا تمنح. الشعوب تعرف كذلك من يتآمر عليها، ومن هو العدو، ولا تنسى ولا تغفر. فأميركا لاتزال حتى اليوم تدفع ثمن دعمها للشاه بعد أكثر من نصف قرن على دعمها لانقلاب مصدق، ولاشك أن باريس وواشنطن ستدفعان ثمن دعم بن علي ونظام الجزائر بأقساط غير مريحة، طال الزمن أم قصر. وعليه لابد أن تتغير لغة الحوار بصورة جذرية بين العرب والخارج.
فلم يعد السؤال هو حول الخيار بين دعم الغرب للديمقراطية أو للدكتاتورية، بل بين المسارعة للحاق بركب التغيير أو انتظار الطوفان القادم.
إقرأ أيضا لـ "عبدالوهاب الأفندي"العدد 3094 - الخميس 24 فبراير 2011م الموافق 21 ربيع الاول 1432هـ