عاد ابن خلدون حاجاً. وبعد سنة من عودته وقعت «فتنة الناصري» في القاهرة. وروى قصتها انطلاقاً من تتبع حوادث الدولة المملوكية وأخبارها وصولاً إلى العام 791 هجرية (1389م). فذكر أن «أهل هذه الدولة بمصر والشام معنيون (...) بإنشاء المدارس لتدريس العلم، والخوانق لإقامة رسوم الفقراء في التخلق بآداب الصوفية السنية في مطارحة الأذكار ونوافل الصلوات» (التعريف، ص 575).
لم يخترع المماليك تلك العادة بل أخذوها عمن قبلهم (ملوك بني أيوب) وإن «استفضل الريع شيئاً عن ذلك جعلوه في أعقابهم خوفاً على الذرية الضعاف من العيلة». هكذا كثرت المدارس والخوانق في القاهرة و «أصبحت معاشاً للفقراء من الفقهاء والصوفية». ويرى الحاج ابن خلدون أن الإبقاء على هذه العادة كان من «محاسن هذه الدولة التركية (المملوكية)» (التعريف، ص 575). فالإسلام في ظل هذه «العصابة (العصبية) المنصورة من الترك» نجح في تجديد دعوته الخلافية نظراً لما زخرت دولتهم من «بحر العمران» وازدهرت فيها المدارس وعمرت المساجد وقامت المآذن إلى أن جاءت دولة السلطان الظاهر فأقامها بالأمراء والعلماء الذين اعتمد عليهم واختارهم لنشر العلم والتدريس (التعريف، ص 576 – 577).
تصادف عهد السلطان الظاهر فترة لجوء ابن خلدون إلى مصر من تونس فأقام في القاهرة إلى أن استدعاه في 786 هجرية (1384م). وكلفه بولاية قضاء المالكية ثم أعفاه من التكليف بعد غرق السفين في مرسى الإسكندرية. واعتزل صاحب المقدمة وانزوى إلى أن فرغ السلطان من بناء مدرسته في «بين القصرين» وأنشأ فيها كرسياً لتدريس المذهب المالكي وكلفه بإلقاء خطبة يوم الافتتاح. وينشر الحاج نص خطبته فيذكر ما تعرض له الدين من ظلم وإلحاد إلى أن عادت الدعوة وانتظمت في «أقطار العالم وشعوب الأنام من عربه وعجمه وفارسه (الفرس) ورومه (الروم) وتركه (الأتراك) وأكراده» والفضل في ذلك يعود، كما يقول، للأئمة الأربعة «علماء السنة المتبعة والفئة المجتباة المصطنعة» إلى الملوك «الذين جبلهم على العدل وفطرته وهداهم إلى التمسك بكلمته». وهو أمر قادهم إلى «التمكين في الأرض من قدرته» (التعريف، ص 580) حتى جاء عهد السلطان الظاهر فنافس «في اتخاذ المدارس والرُّبط لتعليم الكتاب والسنة وبناء المساجد المقدسة» (التعريف، ص 581). ثم اختار لها «من أئمة المذاهب الأربعة أعياناً ومن شيوخ الحقائق الصوفية فرساناً» (التعريف، ص 582). ويأتي على تكليفه بمهمة قاضي المالكية وتقصيره بالمسئولية. وعلى رغم قصور «البضاعة متأخراً عن الجماعة (...) عيالاً على هؤلاء الأئمة» نجح في سد الثغرة بسبب التسامح ومواهب «العفو والتجاوز» (التعريف، ص 582).
تعمد الحاج نشر خطبته بالكامل حتى يعترف ضمناً بتقصيره عن مجاراة غيره من قضاة المذاهب الثلاثة الأخرى وتم سد النقص بجهده ومساعدتهم وعفوهم وتجاوزهم الأخطاء. إلا أن «تعاون العدأة عند أمير الماخورية، القائم للسلطان بأمور مدرسته، أغروه بصدّي عنها، وقطع أسبابي من ولايتها، ولم يمكن السلطان إلا إسعافه فأعرضت عن ذلك، وشغلت بما أنا عليه من التدريس والتأليف» (التعريف، ص 583).
يقدم ابن خلدون رواية معدلة عن أسباب إبعاده عن مسئولية قاضي المالكية غير تلك التي رددها سابقاً. فهو هنا يعترف بقصور بضاعته وتأخره عن الجماعة الأمر الذي دفعهم إلى تحريض القائم بأمر مدرسة السلطان بتقديم شكوى ضده ونزع الصلاحيات الموضوعة بتصرفه.
بعد عودة صاحب المقدمة من أداء الفريضة شغرت «وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش فَوَلاني إياها بدلاً من مدرسته وجلست للتدريس فيها» (التعريف، ص 583) في العام 791 هجرية (1389م).
آنذاك كان عمر ابن خلدون 59 سنة ومضى على رحيل أهله وولده حوالي 5 سنوات قضاها في الزهد والتعبد والعزلة والانقطاع ثم القيام بفريضة الحج. وسيعترف الحاج في خطبة استلامه بالمسئولية مجدداً وقصوره في تدريس الحديث قياساً بأهل العصور (وعصره) وتمنى أن لا «يجمح بي مركب الغرور أو يلج شيطان الدعوى والزور في شيء من الأمور» (التعريف، ص 585).
اختلف سلوك ابن خلدون بعد قضاء الفريضة وبات أكثر تواضعاً واعترف بتقصير بضاعته (علومه) في مجالات وحقول معينة قياساً بالعلماء والفقهاء الذين عايشهم. وقرر الحاج أن يدرّس كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس فهو من «أصول السنن وأمهات الحديث» كذلك فهو «أصل مذهبنا الذي دار عليه مدار مسائله ومناط أحكامه، وإلى آثاره يرجع الكثير من فقهه» (التعريف، ص 585). واختيار الحاج كتاب الموطأ يعود لسببين: أولاً هو أستاذ كرسي المالكية في المدرسة وثانياً حفظه وقرأ العديد من فصوله على يد شيوخه في تونس (فترة الطفولة والشباب) وأخذ إجازة عامة في شرحه وعرض أبوابه.
تصادفنا مشكلة مع ابن خلدون بسبب ترتيبه للحوادث المتعلقة بشخصه وحياته، فهو مرة يقول إنه تسلم وظيفة الحديث في مدرسة صلغتمش بعد سنة من عودته من تأدية الفريضة وجلس للتدريس في سنة 791 هجرية وقرر إدراج كتاب الموطأ على طريقة يحيى بن يحيى الأندلسي في برنامجه. ويقول في مكان آخر إنه استلم وظيفة التدريس قبل أن يكلفه السلطان الظاهر مسئولية قضاء المالكية (أي في سنة 786 هجرية بعد وصوله مصر بسنتين) ويعود ويقول إنه تسلم الوظيفة في مدرسة صلغتمش «بدلاً من مدرسته في محرم أحد وتسعين ومضيت على حالي من الانقباض والتدريس والتأليف حتى ولاني خانقاه بيبرس، ثم عزلني بعد سنة أو أزيد» (التعريف، ص 590).
ربما يعود سبب ضعف الترتيب إلى كبر صاحبنا في العمر. فكتاب «التعريف» آخر ما ألّفه دفاعاً عن نفسه إذ ركز كثيراً على علومه ودراساته في مجالس الشيوخ وأساتذة الفقه والدين والحديث دفعاً للاتهامات التي وجهت ضده بنقص «بضاعته» وقلة خبرته. لكن يمكن أن نجازف ونضع الترتيب الآتي: وصل صاحب المقدمة إلى مصر سنة 784 هجرية. درّس في الأزهر. تولى التدريس في مدرسة القمحية. كلفه السلطان ولاية قضاء المالكية فاختلف مع أصحابه بسبب محاولاته لإصلاح نظام القضاء ومنع الفساد (سنة 786 هجرية). غرق السفينة في مرسى الإسكندرية وخسارته الموجود والمولود. دخوله في حال قنوط وانطواء وزهد فقصّر في وظيفته ومتابعة مهمته. أعفاه السلطان من مسئولية القضاء سنة 787 هجرية. قضى ثلاث سنوات في التأليف والتدريس والقراءة والكتابة. أدى فريضة الحج في سنة 789 هجرية (1387م). عاد إلى مصر من الحج بعد سنة (790 هجرية). تولى وظيفة تدريس الحديث حسب مذهب الإمام مالك في مدرسة صلغتمش في سنة 791 هجرية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3094 - الخميس 24 فبراير 2011م الموافق 21 ربيع الاول 1432هـ
شكرًا
شكرًا على المقال الرائع الف شكر استاذ
نايم
احنا وين وانت وين