لاشك في ان مقاطعة انتخابات مجلس النواب البحريني في اكتوبر/ تشرين الأول 2002 ألقت بظلالها على عدة مواقع في الساحة البحرينية. حتى الساحة الاقتصادية، التي كانت اصلا مغيبة من حسابات الجمعيات السياسية ومهمشة من النظام، تأثرت هي الأخرى من المقاطعة. وفي الوقت الذي كان القطاع الاقتصادي يتوقع من المعارضة ان تمارس دورا بارزا وحقيقيا في تطهير الساحة الاقتصادية من أعباء وعقبات الفساد الإداري والمالي من خلال المساءلة والرقابة والشفافية في البرلمان، فإن هذه التوقعات اصيبت بخيبة أمل وتراجع كبيرين جدا نتيجة المقاطعة.
ولكن دعونا نبدأ من البداية ونحاول تشخيص هذه المشكلة. فالمشكلة باعتقادنا لم تبدأ بسبب مقاطعة الجمعيات السياسية البارزة للانتخابات النيابية فحسب. ولكنها بدأت قبل اتخاذ الجمعيات المقاطعة لهذا الموقف السياسي الاستراتيجي. ففي اعتقادنا ان المشكلة تكمن اساسا في أن المعارضة البحرينية نفسها فصلت نفسها طواعية عن القطاع الاقتصادي وتحديدا عن القطاع الخاص. فهي لم تتفاعل مع التجار والصناع والمهنيين والفعاليات الاقتصادية في الساحة، بقدر ما تفاعلت مع العمال والعاطلين، وكأنها تحمل معها موروثات الفكر الاشتراكي الذي ينظر الى التجار وكأنهم (طبقة رأسمالية متآمرة مع النظام الرأسمالي ضد الطبقة العاملة، وان الصراع الطبقي يحتم عليها ان تقف منها موقف حذر في الضفة الشرقية ضد الفكر الغربي الرأسمالي).
وبعبارة أخرى، عندما بلورت الجمعيات السياسية المقاطعة موقفها من الانتخابات النيابية، ازعم انها لم تحاول التقرب من التجار والمهنيين وأصحاب الاعمال الحرة، ولم تتبادل وجهات النظر معهم عن رؤاهم وقراءاتهم للحالة السياسية الآنية والمستقبلية في ضوء المشروع الاصلاحي وانعكاساتها على الساحة الاقتصادية ولم تتعرف على موقفهم من البرلمان والدستور. بل ولم تبذل جهدا مباشرا لفهم القطاع الخاص ومعرفة مشكلاته وتجاربه مع النظام السياسي والاقتصادي في البلاد ورأيه في مسألة المقاطعة. وحسبي ان هذه الجمعيات السياسية تصورت ان القطاع الخاص بتجاره وصناعه ومهنييه لهم مصالح مشتركة مع الحكومة وفي توافق تام معها في كل مواقفها وقراراتها السياسية والاقتصادية. ولهذا لم يكن من المستغرب ان يستمر فتور العلاقة ما بين الجمعيات السياسية والساحة الاقتصادية. ولم يكن من المستغرب ايضا ان تصطدم هذه الجمعيات السياسية بواقع اقتصادي معقد لم تتمكن حتى هذا اليوم من قراءته وتحليله بصورة موضوعية وعلمية من دون ان تتعثر او تتعكر هذه القراءة بموقفها من التجار والمهنيين أو بمسألة: هل شارك التجار في الانتخابات النيابية أم تضامنوا مع تيار المقاطعة؟
نعم، المشكلة أبعد من ذلك بكثير، فهي لا تنحصر في: هل يجب ان نتعامل الآن مع البرلمان أم نستمر في مقاطعته. وليست المشكلة في مراجعة موقفنا من التجار والصناع والمهنيين فحسب، كما ان المشكلة ليست فقط في تثبيت موقفنا الاستراتيجي في الانتخابات النيابية المقبلة في العام 2006 وتأكيد استمرار المقاطعة. بل المشكلة تكمن في مدى قدرة المعارضة على صوغ فكر سياسي متجدد. فكر قادر على اعادة قراءة الحراك السياسي المحلي وعلاقته بالساحة الاقليمية. فكر يستوعب طبيعة التحولات الكبرى في الخريطة الفكرية والايديولوجية العاملية. فكر يستوعب التحولات الاقليمية في المنطقة وتأثيراتها على الساحة البحرينية. فكر يفهم طبيعة الصراعات العشائرية والقبائلية وصراع السلطة في المنطقة والمملكة. فكر يفهم طبيعة اقتصاد البحرين ومكوناته وخصائصه مقارنة مع نظائره من الاقتصادات الخليجية والاقليمية. فكر قادر على التجديد والمناورة والنقد الذاتي. فكر يفهم أهمية الوحدة الوطنية والتحديات التي تواجهها على الساحتين الوطنية والدولية. فكر يدرك أن الإقصاء والتخوين والتشهير هي من أساليب الأنظمة الاستبدادية وأمراضها المتفشية ويجب ألا تقع الحركة الوطنية في مستنقعاتها. فكر يعترف بالرأي الآخر في ساحته أولا وفي محيطه ثانيا ويعترف بالتقصير بدلا من الإصرار على المكابرة والتشهير. فكر يدرك التحديات الداخلية والذاتية والخارجية التي يواجهها النظام ويدرك أهمية دعم المشروع الإصلاحي ومؤسساته والتصدي للتحديات التي يواجهها. فكر يدرك أن الخصم الحقيقي المشترك للحركة الوطنية وللمشروع الإصلاحي هو: الفساد الإداري والمالي وأدواته وقواه، وأنه هو السبب الحقيقي وراء هذا النزاع بشأن التغييرات الدستورية.
هذه هي المشكلة. فما العمل؟ وما الحل؟
الحل لن يكون بتلك الدرجة من البساطة. فالرموز السياسية المعارضة التي يَكُنّ لها الشعب الثقة والولاء هي رموز مازالت بحاجة إلى الاقتراب أكثر من مختلف ثنايا الساحة البحرينية وزواياها، وخصوصا الساحة الاقتصادية. وهي بحاجة إلى التواضع الفكري والمرونة والمناورة السياسية بدلا من هذه المكابرة والتصلب ومناطحة الرأي الآخر. فالسياسة هي أيضا، وليست فقط الحروب، كرٌ وفر، ومناورة ومحاورة. الحنكة السياسية والمعارضة الشريفة لا تعني بالضرورة الصمود على المطالب والمواقف السياسية نفسها. فنحن جميعا ندرك أن ما أُعطينا إياه، أقل كثيرا مما وُعدنا به، وأن ما أعطينا إياه هو استحقاقات وليس عطايا ومنحا. نحن ندرك أن هذا البرلمان لا يمثل البرلمان الذي طالما انتظرناه. وندرك جيدا أن هذا الشعب ورموزه الشريفة وشهداءه الأبرار وجماهيره الحرة يستحق أكثر بكثير مما جاءت به خطوات الإصلاح السياسي ودستوره المُكبّل.
لكن هل لنا من مخرج من هذه الأزمة السياسية التي فرضها علينا النظام القديم الجديد؟ هل الحل يكمن في المقاطعة؟ هل الحل يكمن في استمرار المقاطعة وإصدار البيانات وتنظيم التظاهرات والندوات السياسية وتعبئة الجماهير والنخب التي صارت تملّ من مواقفنا؟ هل المقاطعة ستوصلنا إلى مبتغانا؟ انظروا حولكم وتفحصوا جيدا... ألم تفل جموع الناس من حولنا؟ أم يتناقص عدد الحضور في الندوات السياسية؟ ألم يبرز هذا البرلمان بصورة أفضل بكثير مما توقعنا وصار فعلا أحد أدوات الضغط السياسي على الحكومة مثلما رسمه المشروع الإصلاحي؟ ألم يبرز نواب هذه البرلمان وأعضاؤه بصورة لم نتوقعها جميعا وزاد الالتفاف الجماهيري حولهم؟ أم يتفاعل هؤلاء النواب بصورة أفضل منا ومنكم مع المستجدات والمتغيرات السياسية؟ وما الحكمة يا ترى من مقاطعة حتى هؤلاء النواب والأعضاء المخلصين في المجلسين الذين أبلوا بلاء حسنا في تحمل مسئولياتهم؟ وما الحكمة من مقاطعتهم بدلا من احتضانهم ومساندتهم في تفعيل دور مجلس النواب ومجلس الشورى؟ لماذا لا نتعاون معهم وندعمهم لكي يطرحوا في البرلمان التغييرات الدستورية التي نتوخاها بدلا من انتظار الفرج من السلطة؟ لماذا لا نتعاون معهم لاختبار هذا البرلمان إلى أقصى حدوده وإمكاناته بدلا من إقصائهم أو تخوينهم أو نبذهم؟ لماذا لا نراجع موقفنا من المقاطعة ونستخدم كل الفرص والوسائل الشرعية لتحقيق التغيير الدستوري الأفضل؟ ألا يمكننا أن نضاعف من جهودنا وتحقيق نتائج أفضل من تحت قبة البرلمان؟ ألا نستطيع ممارسة الضغوط والمساءلة والرقابة أكثر من خلال رموزنا السياسية الناضجة وخصوصا إذا دخلوا البرلمان؟ ألا نستطيع مواصلة التظاهر والاعتصام وتقديم العرائض الشعبية وحشد الرأي العام العالمي والضغوط الدولية وفي الوقت نفسه التعامل مع البرلمان نفسه باعتباره أحد أدوات الضغط السياسي؟ ألا يوفر لنا هذا البرلمان قاعدة أكثر صلابة وشرعية وحصانة من القاعدة التي صارت تهتز من تحت أقدامنا؟ أين الواقعية السياسية في هذا التعامل الجامد مع الحراك السياسي المتجدد؟ ما هذه التناقضات التي صرنا نعيشها بسبب هذه المقاطعة؟ ما هذه الزاوية التي حشرنا فيها أفضل جمعياتنا ورموزنا السياسية التي نكن لها كل القدير والثقة؟ وما هي يا ترى أجندة الجمعيات المقاطعة وهل تستطيع هذه الأجندة جذب الجماهير ومنافسة البرلمان وآليات المساءلة والمحاسبة؟ وكيف يا ترى سنفسر تعاملنا الجاف مع المجالس البلدية التي اشتركنا جميعا في انتخابها ثم هجرناها ونبذناها؟
وعلينا ان نتذكر جيدا ان تعافي اقتصاد مملكتنا الناشئة مرهون بقدرتنا على تجاوز هذه الحال السياسية المقلقة بصورة سلمية وحضارية تدرك طبيعة التنافس السياسي الجديد الذي نعيشه. وان معافاة الاقتصاد ستؤدي الى حياة افضل لنا جميعا وخصوصا للعاطلين او المفصولين وسيضيء الامل للطلبة ويدفعهم نحو الجد والاجتهاد والاستعداد لمستقبل افضل. وان التحامنا وتفاعلنا مع المشروع الاصلاحي بصورة ايجابية من شأنه تقويض أركان الفساد السياسي والاداري والمالي واصلاح دستور 2002، وتفعيل آليات المساءلة والرقابة والشفافية في النظام السياسي.
ختاما، هذه دعوة من القلب الى كل الاطراف المعنية وخصوصا الى النظام السياسي والجمعيات السياسية لاعادة النظر في هذه الحال السياسية المقلقة وفتح الابواب للمزيد من الحوارات والتواصل ما بين السلطة والشعب وخصوصا مع الجمعيات السياسية المقاطعة. فنحن ندرك جيدا ان هناك فجوة متوسطة الحجم، ان صح التعبير، ما بين رؤية السلطة ورؤية الجمعيات السياسية، لن يُحتاج لردمها إلى الكثير من الجهد والخسائر، بقدر ما تحتاج الى الكثير من العقلانية والحكمة والصبر وقليل من العاطفة والحماسة. دعونا نهيئ فرصة اكبر لهذا البرلمان لاختبار دوره وتشجيعه على اجتياز هذا الاختبار بنجاح بل بتفوق لا ان نكون سببا في وأده بعد ولادته المتعسرة... دعونا نحسن الثقة ونخلص النوايا ونعمل معا لاحتضان هذا الوليد العزيز ونهيئ له البيئة الصحية السليمة لكي ينمو ويترعرع ويتخلص من اعاقته ويصبح شابا سليما معافى قادرا على العطاء بلا حدود... فهل نعطي هذا الوليد فرصة أم لا؟
العدد 309 - الجمعة 11 يوليو 2003م الموافق 11 جمادى الأولى 1424هـ