ماذا بعد استخدام إدارة باراك أوباما حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار دولي كان يفترض أن يصدر عن مجلس الأمن ويدين خطط الاستيطان في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967؟
الخطوة الأميركية أساساً تعتبر فضيحة سياسية في كل المعايير الإنسانية والقانونية، فهي من جانب تكشف عن ازدواجية في التعامل مع حق الشعوب في تقرير مصيرها والتمييز بين قضية عادلة وأخرى، وهي من جانب آخر تؤكد أن واشنطن لاتزال حتى الآن غير قادرة على تجاوز العقدة الإسرائيلية وما تمثله من تسلط واستبداد وقهر وإذلال وعدم احترام للمواثيق والقرارات الدولية.
الفضيحة السياسية الأميركية سيكون لها مردودها الأخلاقي لأنها تعارض في جوهرها القانوني ذلك الخطاب الذي دأبت واشنطن على تكراره في الآونة الأخيرة بشأن دعم المسيرات السلمية ودعوة الأنظمة للاستماع إلى شعوبها. فهذه الفضيحة تؤكد للمرة المليون ضعف الإدارة في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي وعجزها السياسي في الضغط على حكومة تل أبيب سواء على مستوى رفع الحصار عن قطاع غزة أو على مستوى منع الاحتلال من توسيع رقعة الاستيطان أفقياً وعمودياً.
الأخطر من الفضيحة السياسية، وهي ليست جديدة على الاستراتيجية الأميركية وأسلوب تعاملها مع قضايا الشرق الأوسط والمسألة الفلسطينية، كانت تلك التهديدات التي وجهها أوباما ووزيرة خارجيته للسلطة في حال أصرت على طرح مشروع القرار على مجلس الأمن. وحين رفضت السلطة الفلسطينية الاستجابة للضغوط الأميركية باعتبار أنها تستمع للشعب وتلبي رغباته وطموحه، أنكرت واشنطن هذا الحق وهددت باتخاذ تدابير تعاقب الناس وتقتص من حقوقهم الطبيعية.
الآن وبعد عراك ومفاوضات قاسية واتصالات هاتفية استخدمت إدارة أوباما حق النقض وأسقطت مشروع القرار الذي نال موافقة 14 من 15 دولة في مجلس الأمن وحظي بتأييد 130 دولة في الجمعية العمومية للأمم المتحدة. السؤال هل تنفذ واشنطن تهديداتها للسلطة الفلسطينية وتعاقبها على تمسكها القانوني في رفع الشكوى إلى مجلس الأمن؟
الجواب يحتمل تفسيرات وهو يتوقف على نوعية التدابير التي ستتخذها واشنطن في الأسابيع المقبلة. وأهم التهديدات تلك الخطوة التي سيباشرها الكونغرس وتتمثل في الدعوة إلى وقف المساعدات الأميركية للسلطة الفلسطينية.
نقض مشروع قرار مجلس الأمن ضد الاستيطان، الذي استخدم للمرة الأولى في عهد أوباما، سيكون خطوة أولى ويرجح أن تعقبه خطوات للاقتصاص من السلطة والشعب الفلسطيني.
الخطوة الثانية تتمثل في دعوة الكونغرس إلى وقف المساعدات الأميركية وهي مسألة في حال اعتمدت رسمياً سيكون لها تأثيرها المعنوي على الناس أكثر مما سيكون لها وقعها الخاص على السلطة. فمثل هذا القرار مهما كانت له تأثيراته لن تقتصر حساباته على المال والاستثمار والتوظيف ومشروعات التنمية وإنما سيرسل إشارة بالغة السوء لكون الخطوة تكشف عن سياسة شديدة الانحياز للجانب الإسرائيلي وخطط التوطين والاستيطان.
الانحياز الأميركي والمبالغة في دعم «إسرائيل» وتغطية عدوانها واحتلالها ليس أمراً جديداً. فهذه الاستراتيجية معروفة وليست بحاجة إلى توضيح. الجديد في الموضوع ماذا تريد الولايات المتحدة من خطوتها وكيف ستتعامل مع السلطة الفلسطينية؟
هناك فرضيات يمكن أن تشكل توجهات محتملة للإدارة الأميركية. وهي تبدأ بخطوة قطع المساعدات والبدء في الضغط على السلطة الفلسطينية للعودة إلى مفاوضات السلام الموقوفة بسبب سياسة الاستيطان. هذا الاحتمال مفتوح على مدى تقبل السلطة الفلسطينية قرار الضغط وردها عليه باعتبار أن موضوع المساعدات مسألة أميركية داخلية محكومة باللوبيات الجمهورية والديمقراطية المؤيدة لحكومة تل أبيب.
الرد الفلسطيني محكوم بالتجاوب مع مجموعة شروط منها تأثير قطع المساعدات الأميركية على أنشطة حكومة سلام فياض ومدى قدرتها على تلبية حاجات الشعب من دون معونات خارجية. إذا استطاعت سلطة رام الله تجاوز هذه العقبة ونجحت في تأمين النقص من الدول العربية والاتحاد الأوروبي تستطيع لاحقاً أن ترفع من درجة اعتراضها على سياسة الاستيطان اعتماداً على قوة الناس المدنية وتعاطف الشارع مع التحدي الفلسطيني ورفضه للضغوط الأميركية. فهل تمتلك السلطة الفلسطينية تلك القدرة على مواجهة ضغط إدارة أوباما التي كما يبدو قررت استخدام معوناتها لكسر شوكة الحقوق المشروعة وإخضاع الناس وإجبارهم على التكيف مع استراتيجية أميركية تبالغ في سياسة الانحياز لحكومة تل أبيب؟
هناك وسائل مطروحة على الساحة وهي من دون شك متوافرة وإلا لما كانت السلطة الفلسطينية لجأت إلى سياسة تحدي الضغوط الأميركية. وأول بنود الرد تبدأ بفتح حوار داخلي مع مختلف الفصائل لتوحيد الجبهة ومنعها من الاختراق والانهيار. بعد ضمان الوحدة الفلسطينية يبدأ العمل بالبند الثاني وهو تحضير الأجواء السياسية للتحرك المدني ضد الاستيطان وجدار الفصل العنصري. بعد الانتفاضة المدنية ومظاهرات الاحتجاج يبدأ العمل بالبند الثالث وهو يتمثل باستعادة الغطاء العربي للانتفاضة الفلسطينية التي قد يتوافر لها النجاح في ظل ظروف ومعطيات أخذت تشهدها المنطقة نتيجة المتغيرات الحاصلة في تونس ومصر وغيرهما من بلدان.
التجاوب العربي يعتمد كثيراً على مستوى التحدي الفلسطيني ومدى استعداد السلطة لنقل المعركة ضد الاستيطان وجدار الفصل العنصري من الاتصالات الدبلوماسية وأروقة مجلس الأمن إلى الميدان وساحات المواجهة ضد الاحتلال. فالموقف الرسمي الفلسطيني مهم للغاية لكونه يشكل قاعدة سياسية مدنية لتأمين الغطاء العربي الذي يشهد حالات من الغليان والغضب تحاول أميركا احتواء مضاعفاتها ومسايرتها وتوظيفها لتمويه انحيازها المطلق للاحتلال الإسرائيلي.
الفيتو الذي استخدمته واشنطن ضد مشروع قرار إدانة الاستيطان الإسرائيلي يشكل فضيحة سياسية للخطاب الأميركي. فالخطاب يجتهد إعلامياً لكسر الصورة النمطية لاستراتيجية الولايات المتحدة الداعمة تقليدياً للأنظمة والمعادية للتطلعات العربية خدمة لمصلحة «إسرائيل». والشعب الفلسطيني وحقوقه المنصوص عليها في المواثيق والقرارات الدولية ليست استثناءً لكونها تندرج تحت عنوان العداء لقضيته المشروعة.
المسألة الآن مفتوحة على خطين مضادين: الأول تقوده واشنطن ويتجه نحو التصعيد ضد السلطة الفلسطينية عقاباً لها على إصرارها على تقديم مشروع قرار يعترض على الاستيطان ويطالب بوقفه. والثاني تقوده رام الله ويتجه نحو الميدان وما يتطلبه من توحيد الجبهة الداخلية وتحضيرها سياسياً للبدء في خطوة تحريك الشارع في سلسلة تظاهرات مدنية سلمية مفتوحة على فضاءات عربية تبدو جاهزة للاستماع والتجاوب مع الشعب الفلسطيني.
المنطقة تمر في حال من الغليان الشعبي وفلسطين ليست بعيدة عنها. فإذا كانت واشنطن جادة وغير كاذبة في الاستماع وتفهم حركات الاحتجاج السلمية والانتفاضات المدنية في البلدان العربية فإنها أيضاً لا تستطيع إلا أن تتخذ الموقف نفسه من تحرك الشارع الفلسطيني المدني والمسالم ضد الاحتلال والاستيطان وجدار الفصل العنصري. إنها لحظة اختبار وقد يشكل الفيتو الأميركي مناسبة للسلطة الفلسطينية أن تتحرر من الوعود والقيود والشروط وتبدأ مسار العودة المدنية إلى الميدان
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3089 - السبت 19 فبراير 2011م الموافق 16 ربيع الاول 1432هـ