الصلاح والفساد خاصية ثابتة للمجتمعات البشرية يتعاقبان على كل مجتمع كما يتعاقب الليل والنهار والحر والبرد والصحة والمرض. ويعج العالم الإسلامي المعاصر خلال القرنين الماضيين بتيارات مختلفة تسعى لإحداث تغيير في واقعه وإصلاح أحواله، وحتى تتمايز هذه التيارات من الممكن وضع بعض المعايير الأساسية التي تفصل بينها.
وهذه لمحة عن هذه المعايير: معايير التمايز:
1. قضية فهم الأصول: أصول الإسلام هي القرآن والسنة. والمنهج العلمي الذي يقوم عليه فهم هذه الأصول من الأمور التي تفصل بين تيارات التغيير. لاشك أن لدى الجيل الحاضر قدر هائل مما تركه الأوائل. والسؤال الكبير الذي تطرحه كثير من هذه التيارات ويحتدم الجدل حوله هو ما الذي يقبل وما الذي يرفض من هذا التراث؟
2. ترتيب أولويات الإسلام: أقسام الدين الرئيسية ثلاثة: عقيدة وشريعة وتصوف، وتحت كل قسم منها شعب متعددة. وتختلف تيارات التغيير في ميزان التوازن بين هذه الشعب وترتيب أولوياتها.
3. تحكيم الشريعة: منذ بداية هيمنة الغرب على العالم الإسلامي في منتصف القرن الثامن عشر أزيح الإسلام عن الحياة العامة واستبدلت الشريعة بقوانين غربية ومن ثم أصبحت قضية الحكم الإسلامي قضية أساسية في قاموس تيارات التغيير في العالم الإسلامي تتباين مواقفها منها وتتعدد.
4. مشكلة الحداثة: التطور سنة الحياة وهناك إجابات متعددة لدى كل الحضارات على سؤال ما الثابت وما المتغير في حياة البشر. وللعالم الغربي المعاصر رؤيته الخاصة في هذه القضية تبلورت لقرون في مناهج علمية وأنماط حياة تقوم على فكرة التقدم المطلق ونسبية الحقيقة حسب الزمان والمكان. وبسبب قيادة الغرب الحالية للعالم أصبحت رؤيته للحداثة هي الميزان الذي توزن به نظم الحياة. وتفرقت بتيارات التغيير في العالم الإسلامي الطرق حسب نظرتها وتعاملها مع قضية الحداثة.
5. منهج التغيير: تتعدد طرق التغيير في كل مجتمع ولكل تيار في العالم الإسلامي منهجه الخاص في ذلك من دعوة بالحسنى وتربية وتعليم إلى تكوين أحزاب سياسية وثورة بالسلاح والعنف.
خصائص تيارات التغيير: حسب المعايير السابقة يمكن تصنيف التيارات المختلفة حسب خصائصها كالآتي:
1. التيار الصوفي امتداد للطرق الصوفية التي تشكلت خلال عصور متطاولة في نظام محكم للتربية وتزكية النفس، ولايزال إنتاجه الفكري والعملي محصورا في هذا المجال. ويحتفظ التصوف بنفوذ كبير في العالم الإسلامي نتيجة لكثرة الأتباع والامتزاج بالقواعد الأسرية والقبلية العريقة المتميزة بثرائها وسلطانها. وساهم هذا التيار في مقاومة الاستعمار سلبياً بالعزلة وإيجابياً بالثورة. ثم أصبح في الغالب مطية للتيارات الأخرى خاصة للعلمانية .
2. التيار السلفي: يقوم هذا التيار على مبدأ تنقية التراث مما علق به من الشوائب الدخيلة والانحرافات عن طريق الاعتماد على الكتاب والسنة وفهم الأجيال الأولى من المسلمين لها. وقد اتّجه جل همه لمسائل العقيدة ومحاربة التصوف ومعظم إنتاجه الفكري في هذا المجال. ودخل هذا التيار ميدان السياسة بعد بروز التيار الشيعي وازدياد تأثيره ثم دخل ميدان الجهاد المسلح في الحرب على الشيوعية. ودفعت به هذه التغيرات لاتباع أساليب التيار السياسي الإسلامي في التعبير والتغيير.
3. التيار السياسي الإسلامي: نشأ هذا التيار مع انهيار الخلافة العثمانية، ومن أولوياته إعادة حكم الإسلام وتحكيم الشريعة وبسط نظم الإسلام في كل مجالات الحياة. ولهذا التيار إنتاج فكري غزير في نقد الحضارة الغربية وبيان بدائل الإسلام لنظمها المعاصرة. واتسم بالمرونة في مواجهة التصوف والسلفية ولكنه حارب بلا هوادة العلمانية والاستبداد. وقاد الجهاد المسلح ضد الصهيونية والشيوعية ولكنه مع هذا اتبع غالباً أسلوب التغيير السلمي. وتعرض الاستبداد لهذا التيار بأقسى أنواع الاضطهاد من سجن وتعذيب وتشريد، وأدت ضراوة القمع له لتشعب جماعات منه تشبه الخوارج في إيمانها بضرورة استعمال السيف والعنف في مواجهة المخالفين.
4. التيار العلماني: العلمانية من آثار تقليد الغرب وقد بدأت جذورها في أكثر البلاد تواصلاً مع أوروبا خاصة تركيا ومصر والهند ثم سرت للعالم الإسلامي قاطبة. وتقوم على مبدأ حصر دور الدين في مجالات خاصة وإبعاده عن توجيه السياسة والحياة العامة. وقد استعان العلمانيون بالدين في خدمة مصالحهم وخاصة الطرق الصوفية. ولقد قام العلمانيون بقيادة تحرر العالم الإسلامي من الاستعمار المباشر ولكنهم مع وطنيتهم لم يفلتوا من سلطانه الثقافي بالكلية. ومع علمانيتهم إلا أن قليلاً منهم قد ألحد ونبذ الدين بالكلية، ولاتزال أغلبيتهم تتمسك بإسلامها على درجات متفاوتة.
5. التيار العصراني: العصرانية مثل العلمانية من آثار تقليد الغرب، ومن أكبر دوافع التيار العصراني ردة الفعل القوية ضد مخلفات عصور انحطاط المسلمين، ومحاولة مراجعة الإسلام في ضوء مفاهيم الحداثة الغربية. ولكنه تجاوز كثيراً من الضوابط في تفسير النصوص وتأويلها، وألبس كثيراً من مفاهيم الغرب ونظمه لباساً إسلامياً.
إقرأ أيضا لـ "بسطامي محمد خير "العدد 3087 - الخميس 17 فبراير 2011م الموافق 14 ربيع الاول 1432هـ