العدد 3087 - الخميس 17 فبراير 2011م الموافق 14 ربيع الاول 1432هـ

تحرير الفكرة الديمقراطية... من الفلسفة الليبرالية شرط تعميمها

برهان غليون comments [at] alwasatnews.com

مفكر سوري مقيم في فرنسا

في العالم العربي المعاصر لا تبرز فلسفة الليبرالية، كتعبير عن ولادة روح فردية قوية ومستقلة بالفعل ومبادرة، بقدر ما تعبر عن خيبة أمل قسم من الرأي العام بأنظمة حكم انبثقت خلال نصف القرن الماضي وفرضت نفسها باسم القومية والاشتراكية واتسمت بما يشبه عبادة الدولة وتقديس دورها الاجتماعي على حساب الفرد وحريته واستقلاله وكرامته. ولذلك فهي لا تبدو كفلسفة أوسع من الديمقراطية، ولكن كتيار فكري مكمل لها أو كالجناح الراديكالي في الحركة الديمقراطية.

ومن يقرأ الأدبيات السياسية العربية الأحدث، يدرك بسهولة الاختلاط العميق الذي يسيطر على الثقافة السياسية العربية في ما يتعلق بمفهومي الديمقراطية والليبرالية وأحياناً عن استخدامهما بمعنى واحد. بيد أن الأمر لا يتوقف على مجرد الخلط بين المفهومين وعدم إدراك الفرق بينهما وإنما يذهب أبعد من ذلك فيطابق بين الديمقراطية والليبرالية أو ينزع إلى تفسير الديمقراطية تفسيراً ليبراليا. ولا يحصل ذلك بسبب معرفة قيم الليبرالية، بل نتيجة الاعتقاد بأن هذه القيم هي جزء لا يتجزأ من الديمقراطية أي من تأكيد قيم الحرية والعدالة والمساواة بين جميع الأفراد بصفتهم أفراداً أحراراً وأسياداً أنفسهم خارج أي إكراهات مجتمعية أو حكومية.

من نتائج هذه المطابقة السلبية والمضرة بالديمقراطية نزوع من يطلقون على أنفسهم اسم الليبراليين العرب، وانطلاقاً من جعل الحرية، إلى التضحية بقيم أساسية لا تستقيم إلى الديمقراطية العربية من دون احترامها. ومن هذه القيم: العدالة الاجتماعية والمساواة القانونية الوطنية المرتبطة بها والتضامن الاجتماعي. ومنها، بالنسبة للمجتمعات العربية التي لم تنجح بعد في الخروج من سياق الهيمنة الاستعمارية، القيم الوطنية المرتبطة بمهمات تحقيق أو حماية الاستقلال والسيادة الوطنية التي ركزت عليها النظم السابقة وبشكل خاص تجاه الدول الكبرى وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. ومنها ما يتعلق بمسائل التأكيد على الهوية العربية وما ارتبط ويرتبط بها من نزعات إلى بناء مشاريع الوحدة أو الاتحاد أو التعاون الإقليمي الخاص بين البلدان العربية. ومنها أيضاً وأحياناً التضامن مع قضايا الأمة العربية وفي مقدمها القضية الفلسطينية.

نلاحظ أن الليبراليين العرب الجدد إنما يتخلون عن هذه القيم الإنسانية العميقة وفي مقدمتها التطلعات الاقليمية والوطنية بتأكيد قيم احترام التنوع العرقي والديني والتركيز على قضايا المعيشة وتحسين مستويات الدخل والتنمية والتعاون مع الدول الأجنبية من دون إيلاء اهتمام كبير لمسائل السيادة والحساسيات الشعبية التاريخية. ويخشى أن تتماهى الليبرالية أكثر فأكثر في البلاد العربية مع التأمرك أو حب التماثل مع أميركا والاقتداء بنموذجها الاجتماعي.

لا شك في أن قيم الليبرالية الجديدة، كما يعيد اكتشافها فريق من المثقفين العرب في سياق صراعهم المشروع ضد النظم الاستبدادية القاسية، وفي مواجهة القيود التي تفرضها التقاليد الاجتماعية والدينية المحافظة، تميل إلى وضع نفسها في مواجهة مباشرة مع القيم السائدة. ويخشى أن يكون مصير التيار الليبرالي العربي الجديد، ومن ورائه مصير النخب المثقفة العربية، في هذا المربع الأول من القرن الحادي والعشرين شبيهاً بمصير التيار الماركسي، الذي نشأ وتصاعد نفوذه في أوساط المثقفين في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

فكلا التيارين ينزع إلى أن يعكس تمرد فئات من المثقفين على القيود المجحفة التي يضعها المجتمع والدولة على حرية الفكر والاعتقاد والمشاركة السياسية ويهدد، لهذا السبب ذاته، بدفع المثقفين أو جزء منهم إلى تبني موقف يشبه موقف المنشقين على الدولة والمجتمع. ومن شأن هذا الموقف أن يقود أيضاً إلى تفاقم شعور المثقفين بالعزلة والتهميش، فهو يشجع لدى بعضهم المراهنة بشكل متزايد على التعاون مع القوى الخارجية، لا بل على التدخلات الأجنبية في سبيل تحقيق تحولات ديمقراطية فعلية داخل مجتمعات تبدو غير قادرة في نظرهم على تحقيقها بعناصرها الذاتية.

إن التطلع إلى بناء الذاتية الفردية الحرة والمتحررة من القيود، ومواجهة الأطراف الاجتماعية المختلفة التي تشكل مصدر سلطة أو صلاحية خاصة، سواء أكانت مجتمعاً شاملاً أم طبقة أم قبيلة أم طائفة أم عائلة، قد يفتح الباب أمام التقليل من قيمة الذاتية الجمعية ومن مسئولية الدولة والمجتمع معاً تجاه الفرد. وقد يقود التطرف الليبرالي، إلى عكس ما يهدف إليه، أي إلى تهديد الذاتية الفردية، وفرض الوصاية وخلق الظروف التي تحول دون تعميم الحريات، دون تنظيم الحياة الاجتماعية على أسس من العدالة والمساواة والاعتراف بمركزية الإنسان وقيمة وجوده الأصيلة.

إن الديمقراطية لم تعد رديفاً لليبرالية، ولكن نموذجاً للحكم الصالح الذي يشمل تحقيق مجموعة من القيم الإنسانية الرئيسة. إلى جانب قيم أخرى تعكس خصوصية المجتمعات وظروف تطورها. هناك ثلاث رؤى مختلفة ومتباينة تنمو اليوم في العالم العربي لطبيعة الأهداف والمهمات التي يتعين على الديمقراطية الآتية أن تعمل عليها: ديمقراطية اجتماعية وديمقراطية إسلامية وديمقراطية ليبرالية.

فالديموقراطية الاجتماعية تعتبر التحويل الديمقراطي، وإعادة إشراك الشعب في السياسة، وإقامة سلطة تعددية على أسس الشرعية الانتخابية، وسيلة من أجل تحقيق مساواة أكبر بين الأفراد أمام القانون وفي مجالات الحياة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وشروط المعيشة. فنظام التسلط والديكتاتورية لا يعمل اليوم بشكل واضح لمصلحة تركيز الثروة المتزايد فحسب، بل أيضاً لمصلحة تهميش الشعب وإخراجه من دائرة القرار كما يعمل لمصلحة تعميق الإفقار الثقافي والفكري وجعل المعرفة والعلم والتربية والتعليم حكراً على الخاصة من المجتمع.

فالخيار الديمقراطي الاجتماعي يجعل من التنمية الاقتصادية والاجتماعية الغاية الأولى للسلطة السياسية وبالتالي ينظر بعين أكثر استعجالاً إلى تحقيق الوحدة والتعاون الإقليمي والدفاع عن القيم الوطنية. وهناك ديمقراطية إسلامية تريد أن تكون التعددية المنتظرة وما تتضمنه من اعتراف بالحريات والحقوق الأساسية للفرد المواطن وسيلة لإضفاء طابع القيم الإسلامية واحترام الطقوس والتقاليد الشعبية على الحياة العمومية وبث درجة أكبر من الأخلاق في حياة الأفراد والجماعات، في الدولة والحياة الخاصة معاً. أي بناء العلاقات والحياة العمومية على أسس أخلاقية.

وهناك مشروع الديمقراطية الليبرالية الذي يريد التعددية لجعل الحرية قيمة أساسية وذات أسبقية في الثقافة الوطنية وتقديس الفرد وضمان استقلاله أمام مختلف السلطات التابعة للدولة أو للمجتمع أو للأجهزة الأمنية والبيروقراطية.

لقد أظهرت التجربة التاريخية أن فصل مسألة الحرية، التي هي مسألة جوهرية في الديمقراطية، عن القيم الإنسانية الأخرى التابعة من التضامن الاجتماعي وفي مقدمها قيم العدالة والمساواة، يقود لا محالة إلى تفريغ الفلسفة الليبرالية نفسها من روحها الإنسانية التي كانت هي الأصل في نشوئها.وفي هذه الحالة يمكن الليبرالية أن تتحول، وهي تتحول بالفعل، إلى عائق أمام الديمقراطية ليس فقط بسبب ما تفترضه من تطابق تلقائي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية فحسب، وإنما أكثر لأنها تنزع إلى تجاهل قيم العدالة والمساواة التي لا يمكن أن تستقيم من دون تدخل الدولة الممثلة لعموم الشعب وإرادته العامة. إنها باسم السعي إلى أقصى درجة من الحرية الفردية، توشك أن تقضي على شروط انبثاق الحرية الحقيقية وتعميمها وتهدد بأن تصبح فلسفة لا إنسانية ولا أخلاقية.

إقرأ أيضا لـ "برهان غليون"

العدد 3087 - الخميس 17 فبراير 2011م الموافق 14 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً