انفتاح الإدارة الأميركية، المحدود والمدروس، على قوى الاعتراض في تونس ومصر والجزائر وليبيا وسورية وإيران واليمن والبحرين وغيرها من الدول العربية والإسلامية يكشف عن بدء مراجعة لخطاب تقليدي ومحافظ اعتمدته الولايات المتحدة منذ أكثر من ثمانية عقود. هناك لغة سياسية جديدة بدأت إدارة باراك اوباما اختبارها ميدانياً للتعرف على طبيعة تكوين السلطات البديلة في حال تمت تسوية حالات الفوضى والاضطراب التي تمر بها دول الشرق الأوسط.
لاشك في أن تركيبة قوى الاعتراض مختلفة بين دولة وأخرى سواء على مستوى مطالب الناس أو على مستوى ظروف كل بلد وخصوصياته الاجتماعية والثقافية والعصبية والانقسامية، ولكن هناك جامع مشترك يوحد العناوين العامة وهي تتركز في معطيات سياسية وحيثيات دستورية.
الجديد في الموضوع هو بداية تبلور رؤية جديدة في خطاب الولايات المتحدة وأسلوب تعاملها مع خصوم أيديولوجيين صنفتهم واشنطن في خانة الأعداء منذ ثلاثينات القرن الماضي. وهذا الجديد يكشف عن استعداد أميركا للتعاطي بجدية مع حركات الاحتجاج انطلاقاً من زاوية تتخالف مع المنطق السلبي الذي أخذت به إدارات البيت الأبيض.
منذ الثلاثينات وتحديداً بعد تأسيس حركة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية في العام 1928 وضعت الولايات المتحدة فاصلاً بين الديمقراطية والإسلام معتبرة أنه لا مجال للمزج أو الجمع بين الحدين. وبناءً على هذه القناعة السلبية وضعت أميركا المنطقة بين اختيارين إما الديمقراطية وإما الإسلام، فمن يريد الأولى عليه أن يتخلى عن الثانية ومن يطلب الثانية عليه أن يغادر الأولى.
عملية الفصل بين الخيارين دفعت الدول الأوروبية في العهد الاستعماري وبعدها الولايات المتحدة إلى اتخاذ خطوات حاسمة ضد الإسلام وذلك بسبب سيادة منطق سياسي يرفض المزاوجة أو الدمج ويتخوف من احتمال فوز الإسلاميين بالانتخابات في حال اعتمد المبدأ الديمقراطي للاختيار بين القوى السياسية. وخوفاً من نجاح الإسلاميين في الإمساك بمقاليد السلطة لجأت عواصم القرار إلى دعم الانقلابات العسكرية والديكتاتوريات والأنظمة بكل ما تمتلكه من وسائل حتى تمنع المعارضة ذات الطبيعة الإسلامية من الفوز.
بين الديمقراطية والإسلام اعتمدت أميركا والدول الأوروبية الديكتاتورية الفردية أو الحزبية أو العسكرية أو البيروقراطية منهجاً للتعامل مع قوى الاعتراض. وزاد الطين بلة حين وقعت نكبة فلسطين وتأسست دولة «إسرائيل» في العام 1948، إذ بالغت الولايات المتحدة في مخالفة إرادة الناس واختياراتهم انطلاقاً من رؤية استشراقية تقوم على فكرة أن المنطقة العربية والإسلامية ليست جاهزة ثقافياً لتقبل مبدأ تداول السلطة.
الدفاع عن «إسرائيل» وحمايتها من الإسلام شكل نقطة ثقل إضافية عززت استراتيجية الغرب في التفرقة والتمييز ما ساعد على الانجراف في سياسة تغطية الأنظمة ودعمها في السراء والضراء والسكوت عن تجاوزاتها مادامت تقوم بوظيفتها وهي مطاردة الإسلاميين وملاحقتهم أو منعهم من الوصول إلى السلطة بتزوير الانتخابات.
أدى الفصل بين الديمقراطية والإسلام إلى تشكيل خطوط متوازية وضعت أميركا والدول الأوروبية في موقع العداء لثقافة الناس وإرادتهم وخياراتهم الفكرية والسياسية طوال العقود الماضية الأمر الذي رفع من نسبة الكراهية المتبادلة وشجع الكثير من الشرائح والأطياف على اللجوء إلى العنف والإرهاب والتطرف للاقتصاص من الدور الأميركي في المنطقة.
التعاطف الغربي مع «إسرائيل» والديكتاتورية أضعف مع تعاقب الزمن فكرة الديمقراطية في المنطقة ورفع نسبة المؤيدين للقوى الإسلامية في مواجهة السلطة أو في منافسة الأحزاب العلمانية أو القومية الأخرى. وبدأ الأمر يتطور سلباً حين نجحت الانقلابات العسكرية بعد نكبة فلسطين في مصادرة السلطة وإلغاء المعارضة والتحكم بمفاصل مؤسسات الدولة في الخمسينات والستينات والسبعينات.
بعد السبعينات استقرت الأنظمة الانقلابية ونجحت في تشليع المجتمع الأهلي وإحباط الهيئات المدنية وإقفال البرلمانات وتعطيل الحريات ومصادرة الرأي الآخر وحل الأحزاب والنقابات ومطاردة الإسلاميين ومنعهم من التحرك في مجالات مختلفة. وساهمت سياسة عسكرة المجتمع في تعزيز فكرة القطع بين الديمقراطية والإسلام وأدت إلى إنتاج تسوية بين «إسرائيل» والأنظمة الانقلابية تقوم على مبدأ الحماية الإقليمية لحليف أميركا مقابل سكوت واشنطن وتغطيتها لكل تجاوزات الاستبداد.
هذا الاستقرار المفتعل بدأ يتزعزع في تسعينات القرن الماضي حين انهارت «الحرب الباردة» ونشأت في إطار مضاعفاتها استراتيجية أميركية تعتمد مبدأ التقويض من الخارج بسبب غياب المنافس الدولي وتراجع المخاوف من النفوذ السوفياتي. استراتيجية التقويض هذه التي بدأت جزئياً في العام 1991 (أزمة الكويت) وصلت إلى ذروتها الكلية في العام 2003 وما بعده فأخذت الولايات المتحدة تهدد خصومها في المنطقة بتعديل سياسة الأنظمة وتضغط على الأصدقاء الإسراع في الإصلاح والتحديث قبل فوات الأوان.
انقلاب الاستراتيجية الأميركية على مشروعها المتوارث منذ ثلاثينات القرن الماضي أثار زوبعة من العواصف والاحتجاجات من الشارع والأنظمة. قوى الاعتراض رفضته لأنه يعتمد سياسة تدمير البنى التحتية بذريعة تمرير الإصلاح والديمقراطية والأنظمة لم تتقبله بسهولة لأنه يفرض عليها اتباع مسلكيات تتعارض مع نهج تم التوافق عليه مع واشنطن منذ سبعينات القرن العشرين.
كان من الطبيعي أن تفشل إدارة البيت الأبيض في عهد جورج بوش الابن في إنجاز أهدافها الجديدة وذلك لاعتبارات كثيرة منها الكيل بمكيالين ودعم «إسرائيل» المطلق ضد حقوق الشعب الفلسطيني وتقاطع سياسة قوى الاعتراض مع الأنظمة المستبدة في رفض أسلوب الغزو الخارجي وإسقاط «الديمقراطية» بالمظلات على بيئة مضطهدة وبلدان مدمرة.
انتهى عهد بوش (تيار المحافظين الجدد) بالفشل والخيبة بسبب عدم تجاوب قوى الاعتراض مع استراتيجية التقويض من جانب وتأييد «إسرائيل» وحمايتها من جانب. فهذه الاستراتيجية الأميركية المزدوجة في معاييرها السياسية كانت مجرد تطوير عنيف لصيغة تقليدية اعتمدت مبدأ الفصل بين الديمقراطية والإسلام.
منطق القطع بين الناس وحق القوى في الاختيار شكل على مدار العقود مشكلة موضعية وبنيوية تمنع تطور السلطة السياسية في المنطقة العربية وذلك بسبب تلك المعادلة السلبية الأميركية التي تفصل أو ترفض الدمج أو الجمع بين ثقافة الناس وطبيعة تكوين الدولة وتاريخها.
الآن، كما تبدو الصورة من بعيد، بدأت تتمظهر في المشهد السياسي الأميركي ملامح قراءة تكشف عن بدء مراجعة لذلك الخطاب التقليدي والمحافظ الذي تأسس على المخاوف من الإسلام والعداء للقوى الإسلامية. فالتصريحات التي صدرت في الأسابيع الماضية من المسئولين في واشنطن ومراكز القرار في الولايات المتحدة أخذت ترسم خريطة مغايرة عن السابق في طريقة التخاطب مع الأنظمة والتعامل مع قوى الاعتراض. والمخاوف من التطرف والعنف والإرهاب التي شكلت ذريعة لإلغاء السياسة في المنطقة العربية بدأت تتراجع بحذر لمصلحة خطاب معقول لا يتردد في إبداء الاستعداد لتقبل نجاح قوى الاعتراض (الإسلامية) في خوض الانتخابات الديمقراطية وربما الفوز في معركة إدارة السلطة.
هذا التطور في الاستراتيجية الأميركية سيكون له وقعه الكبير في سياق المتغيرات الحاصلة في الشرق الأوسط باعتبار أن الولايات المتحدة بالتضامن والتواطؤ مع حليفها «إسرائيل» تشكل تقليدياً العقبة الكأداء في مواجهة عملية التقدم في المنطقة العربية. فالانفتاح على قوى الاعتراض وإعادة الاعتبار لمعادلة المزج أو الدمج بين الديمقراطية والإسلام وتقبل أي فريق سياسي يختاره الناس في صناديق الاقتراع يمكن أن يمهد الطريق لتحولات دراماتيكية لا تقل أهمية عن تلك العواصف التي اجتاحت المنطقة في الخمسينات والستينات والسبعينات.
قبول الولايات المتحدة بقوى الاعتراض والبدء في الاعتراف بدور الإسلاميين والاستعداد للتعامل معهم بوصفهم شريحة سياسية من المجتمع يعني منطقياً أن واشنطن في عهد أوباما باتت جاهزة للاختلاف مع الأنظمة وتحمل التبعات والمضاعفات التي قد تنشأ عن التعديلات أو التحسينات في استراتيجية أميركا في الشرق الأوسط.
هذا التطور مهم وخطير جداً ولكنه في النهاية لا يلغي السؤال عن الجانب الآخر من الصورة وهو ماذا عن «إسرائيل» وعلاقة أميركا العضوية بها. فالزعزعة في جانب ليست كافية إذا لم تستكمل في الجانب الآخر وإلا سيبقى التغيير محدوداً لأن أصل المشكلة بدأ في فلسطين وإليها يعود ومنها يبدأ الحل وما يستتبعه من سلام عادل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3086 - الأربعاء 16 فبراير 2011م الموافق 13 ربيع الاول 1432هـ