ما قصدنا قوله في تلك المقدمة المقتضبة، هو أنه رغم كل التجانسات، والقيم المشتركة التي تحكم المنطقة العربية، لكن الظروف التي حكمت تطور شعوبها، والعوامل التي صاغت تشكيلاتها الاجتماعية، جعلت لكل شعب من شعوب الأمة العربية بعض سماته المختلفة التي تميزه عن سواه من الشعوب العربية الأخرى. لا يلغي هذا التميز الخلفية الدينية المشتركة التي تحكم هذه الشعوب، ولا تستطيع ان تتجاوزه الكثير من العناصر الأخرى التي تجمع بينها، مثل عوامل اللغة، والجوار، والتاريخ المشترك، وما شابهها. هذا الواقع الديناميكي الجامع للتوافق والاختلاف، هو الذي يفرض على المنطقة العربية أن يكون لكل ثورة فيها نكهتها الخاصة بها، ولكل شعب منها طريقته المختلفة في الرفض والتغيير.
لذا ينبغي علينا أن نعي استحالة انتقال شرارة ثورة 25 يناير المصرية بشكل تلقائي وعفوي من ميدان التحرير إلى العواصم العربية الأخرى، باستثناء تونس التي لها خصوصيتها عند تناول هذه القضية الآنية، نظراً لأسبقيتها في اندلاع الثورة.
على أرضية هذه الفرضية القائمة على استحالة «الاستنساخ» الفوري/ الشكلي لثورة 25 يناير المصري، نجد أنه لا مفر للقوى التي تريد ان تستقي الدروس من تلك الثورة، وتستفيد منها لإحداث التغييرات المطلوبة في مجتمعاتها أن تتوقف بروية وموضوعية عند النقاط المركزية التالية:
1. الأسباب التي قادت إلى اندلاع ثورة يناير المصرية، فمن السذاجة السياسية إرجاعها إلى العوامل التونسية، وحصرها في عملية انتحارية فردية قام بها أحد الشباب التونسي. علينا التوقف في مصر، عند المثلث الذي أدى إلى اندلاع الثورة، وبالزخم الذي زودها بالقدرة على الاستمرار والتنامي والذي هو: الفقر، الفساد، والظلم السياسي. فقد تفاعل جوع عشرات الملايين من المصريين ممن يعيشون تحت حزام الفقر، مع نظرائهم ممن كانوا يلمسون مظاهر الفساد تعشش في مؤسسات الدولة، وأركان الحكم، سوية مع أولئك ممن سكنوا زنازن سجون أبو زعبل عقابا لهم على انتماءاتهم الفكرية أو التنظيمية، كي يطلقوا سوية شرارة ثورة يناير المصرية.
2. خارطة القوى السياسية المصرية التي شخصت تلك الأسباب، والتقطتها في اللحظة المناسبة، وحولتها من مجرد احتجاجات متفرقة متشرذمة إلى ثورة متنامية متماسكة، ذات خطوات مدروسة، تتحرك نحو أهداف محددة. هنا يقفز أمامنا تاريخ الحركة السياسية المعاصرة المصرية التي تعود جذورها القريبة إلى ثورات 1919، وقبلها انتفاضة 1923، وأخرى غيرهما، توجتها انتفاضة يناير 2011. ولابد لنا هنا رؤية ذلك الطيف السياسي المصري ذي الألوان المعقدة، الذي تتداخل فيه القوى الدينية مع القوى الماركسية، وفيما بينهما القوى القومية والليبرالية، ونجاح المجتمع المصري في صهرها في بوتقة واحدة ضد الاستعمار، كما جرى في العشرينيات من القرن الماضي، أو ضد نظام فاروق الفاسد المتهالك في مطلع الخمسينيات منه، وأخيرا من أجل إسقاط نظام مبارك في يناير 2011.
3. طبيعة النظام القائم، والذي تفاعلت في داخله مجموعة من العناصر – بالإضافة إلى إفقار المواطن، والفساد، والظلم السياسي- مثل الغرور والثقة المطلقة بالنفس، واحتقار حركة المعارضة، إلى درجة أوصلت العلاقة بينهما إلى طريق مسدود، ليس هناك أمامه أي مخرج سوى الانتفاضة، والمطالبة بإسقاط النظام، والتخلص من رموزه. لقد اختار النظام، في علاقاته مع ثورة يناير، عند بداية انطلاقتها، سياسة قطاع الطرق التي لا تكتفي بإلحاق الضرر بمن تعتدي عليهم، وإنما تمعن في الانتقام منهم، بالإضافة إلى امتهان كرامتهم. عبر عن ذلك السلوك اللصوصي، «بلطجية» النظام التي أطلقها نظام مبارك على المعتصمين في ميدان التحرير، كي يصعدوا من طبيعة المواجهة، ويرغموا المعتصمين على اللجوء إلى العنف، كي يبرروا بدورهم العودة لسياسة النظام البربرية في علاقاته مع المواطن.
4. الطبيعة الخاصة للقوات المسلحة المصرية، دون ان يغيب عن ناظرينا صفاتها السلبية الأخرى، التي حاولت تجنب الانحياز لصالح النظام، واختارت دور الحكم المحايد بين المتصارعين. وقد ساعدها ذلك الدور على ان تحظى بثقة المعتصمين في ميدان التحرير، فيلجأوا لها لحمايتهم من «بلطجية» النظام أولا، ويستمعوا لنداءاتها في الفترات التي سبقت تنحي الرئيس مبارك ثانيا. ربما يصعب تخيل تكرار تجربة تعامل الجيش المصري مع المواطنين الثائرين في أي نظام سياسي آخر غير المصري. السلوك المحايد هذا أهل الجيش عندما وصلت الأمور إلى نهاياتها وصعب على الطرفين: الحكم والثوار، العودة للوراء أن يتقدم الصفوف ويمارس دور الحكم المقبول به من الطرفين. هناك حالة قريبة من الحالة المصرية شهدناها في تونس، لكنهما ليستا متطابقتين ولكل واحدة منهما نكهته المحلية الخاصة.
5. الشباب المصري، والذي كان وقود الثورة، الذي أمدها بالقدرة على الاستمرار والصمود، يصعب في الوقت الحاضر، وفي هذه المرحلة المبكرة الخروج باستنتاجات حول مواصفات هذه الكتلة الاجتماعية التي أهلتها إلى تقدم الصفوف، وتجاوز القوى السياسية الأخرى التي تفوقها خبرة، وتتجاوزها عمرا، كي تقود الثورة، وتتمسك بمطالبها التي أسقطت واحدة من أعتى الدكتاتوريات في الشرق الأوسط، إن لم يكن في العالم. وربما يدعو الدور الذي مارسه الشباب المصري العديد من المفكرين الاجتماعيين، إلى إعادة النظر في ترتيب مواقع الفئات الاجتماعية في صفوف القوى الأكثر أهلية للثورة على اوضاعها، من أجل نسف الهياكل المجتمعية القديمة، وإشادة أخرى بديلة لها وأفضل منها، بالمعنى التاريخي لتعريف من هو الأفضل.
كل هذه النقاط تضفي على الثورة المصرية نكهتها الخاصة، وتفرض على كل من الشعوب العربية ان تختار طريقتها الخاصة التي تؤهلها لأن تنجز ما حققته المصرية، منطلقة من ظروفها الخاصة البعيدة كل البعد عن الاستنساخ الأعمى للثورة المصرية.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 3083 - الأحد 13 فبراير 2011م الموافق 10 ربيع الاول 1432هـ
تحية ..
تحيو للكاتب المبدع على مقاله الرائع الذى يوضح معالم الثورة المصرية والاستفادة وعدم الاستنساخ ظاهرها!!!.
أبوجعفر
ابو بتول
تحياتي الي شعب مصر المجاهد الصابر