يعكس الخلط بين مفهومي الديمقراطية والليبرالية رغبة بعض قطاعات المثقفين العرب في تفسير الديمقراطية، بما يساعد على مواجهة القيود والضغوط التي تمارسها المجتمعات التقليدية على الفرد في ما يتجاوز مسألة الرد على تحديات السلطة الاستبدادية، ويثير في المقابل مخاوف كبيرة لدى قطاعات الرأي العام الواسعة التي تخشى ان يكون مضمون الديمقراطية الاباحة الكاملة لكل ما يمكن ان يشكل خرقا للقيم والتقاليد والعقائد الدينية.
الديمقراطية لا تتناقض بالاساس مع الليبرالية التي شكلت حاضنتها الفلسفية والسياسية الرئيسية، الا انها لا تتطابق معها، بل هي تنزع الى الاستقلال اكثر فأكثر في مفهومها ومنظومة ممارستها عنها. وفي هذه الحقبة التي تشهد عودة قوية للفلسفة الليبرالية عموما، وفي عالم الجنوب والشرق بشكل خاص (كما يتبين من صدى افكار فوكوياما، على اثر الانحسار، ان لم نقل التلاشي، الذي شهدته الفلسفات المناوئة، في سياقات انهيار الفكرة الشيوعية وتراجع الايديولوجيات القومية وانبعاث افكار وحركات المجتمع المدني وحقوق الانسان) يصبح من المفيد اعادة فحص هذين المفهومين المترادفين الديمقراطية والليبرالية، والسعي الى ابراز المستويات المختلفة لتطابقهما وانفصالهما.
ينبغي بالتأكيد الحذر من معاملة المفاهيم الفكرية كما لو كانت مفاهيم جامدة وجاهزة، فمضامينها تتطور وتتبدل باستمرار. لكن برغم ان المفاهيم لا تحتفظ بدلالاتها من دون تغيير لفترات طويلة وان مضمونها التاريخي يرتبط في النهاية بالسياق الاجتماعي الذي تعاود الظهور فيه الا ان استخدامها في فترات متباعدة وفي سياقات مجتمعية متعددة يؤكد ان للمفاهيم الاجتماعية بعض الدلالات الثابتة التي من دونها لا يستقيم معناها.
تنطوي الليبرالية على اعتقادات ثابتة اساسية لا تستقيم من دونها، اولها، مبدأ الانسجام الطبيعي الذي يقضي بألا يتناقض بحث الفرد الحر عن مصالحه الخاصة، مع تحقيق المصلحة العامة للجميع، بل هو على العكس يشكل ضمانته الحقيقية. ويعني ذلك انه اذا تركنا كل فرد يبحث بحرية عن مصلحته الخاصة، سنصل الى انسجام حقيقي في المصالح اكثر بكثير مما لو سمحنا للدولة بأن تتدخل لضمان مثل هذا الانسجام او لاختراعه.
ثانيها، ان حقل الحرية السياسية يتطابق مع حقل الحرية الاقتصادية، ولا يعني هذا مجرد الافتراض بأن الاقتصاد الحر هو شرط للحرية السياسية او الديمقراطية فحسب ولكن اكثر من ذلك ان الحريات الاقتصادية المجسدة في اقتصاد السوق الحر تقود مباشرة وتلقائياً الى نشوء الحريات السياسية وتأكيدها.
وثالثها، ان الديموقراطية والليبرالية متطابقتان تماما فلا ديمقرطية من دون ليبرالية ولا ليبرالية من دون ديمقراطية وبالتالي فالليبرالية تضمن بشكل تلقائي تكافؤ الفرص وآفاق الارتقاء الاجتماعي والمشاركة السياسية لجميع الافراد بقدر ما تضمن النمو والتقدم الاقتصادي.
النيوليبرالية التي تشكل الايديولوجية الجديدة لحقبة ما بعد الحرب الباردة في مركز العالم الصناعي والتي تنتشر بسرعة في بقية بقاع العالم، هي مذهب العودة الى اصول الليبرالية، وتعني اذاًً تحريرها من القيود التي ادخلت عليها منذ العقود الاولى من القرن العشرين، كرد على الازمات الكبرى التي واجهتها ومنها ازمة الكساد الكبرى في نهاية الثلاثينيات. وكما مع كل عودة للاصول مبالغة في التركيز على المبادئ والقيم الاساسية التي يتضمنها المذهب او النظام المستعاد. لا تكتفي النيوليبرالية بالتأكيد على ضرورة التراجع عن تدخل الدولة المباشر والواسع في النشاطات الاقتصادية والانتاجية بما في ذلك قطاع الخدمات العامة واخضاعها جميعا لقاعدة المنافسة وقانون العرض والطلب، بل هي تسعى اكثر من ذلك الى تجاوز نظام السوق الرأسمالية القومية او الوطنية الذي ساد في المراحل السابقة وما يعنيه من ممارسة الدولة حقها في السيادة الاقتصادية ووضع التعريفات الجمركية الحمائية وتنشد بناء سوق رأسمالية على امتداد الكرة الارضية، وهو ما يندرج اليوم تحت اسم العولمة.
وفي السياسة تعني النيوليبرالية التخلص من دولة الرعاية والدعم التي نشأت في الحقبة الماضية. انها تنظر الى الخدمات التعليمية والصحية والضمانات الاجتماعية المختلفة التي وفرتها هذه الدولة في السابق على انها معوقة للمجتمع الحر لأنها تقيد اختيارات افراده مثلما هي معوقة للتقدم الاقتصادي بقدر ما تفرض اكراها وكوابح على سوق التداول الحر للسلع والخدمات والمهارات.
لا يقبل الفكر الديمقراطي المعاصر بالمسلمة القائلة إن احترام الحريات الفردية يقود حتماً الى تحقيق القيم الانسانية المطلوبة، وينتج تلقائياً العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص لأبناء المجتمع الواحد ولا يؤمن تاليا بالانسجام الطبيعي بين حقلي الحرية الاقتصادية والسياسية.
الحرية لابد ان تترافق مع سياسات اجتماعية واقتصادية تضمن حدا ادنى من استقلال الافراد بما يمكنهم من ممارسة حرياتهم «الشكلية». الحرية وحدها ليست مبدأ كافيا لقيام نظام ديمقراطي واجتماعي صالح وناجع على رغم انها تبقى قيمة اساسية فيها. فأي معنى للحرية من دون عدالة ومساواة قانونية فعلية. ومن هنا لا يعتبر الفكر الديمقراطي المعاصر عدم تدخل الدولة في العملية الاقتصادية مذهبا مقدسا وشرطا لقيام اقتصاد سوق ناجح ومنتج.
من هنا سيتبلور عبر التجربة التاريخية الطويلة مفهوم للديمقراطية يتقاطع مع الليبرالية في مناح عديدة. المنحى الاول هو التمييز بين المظاهر السطحية والشكلية للممارسة الديمقراطية وتحقيق القيم العميقة للفلسفة الليبرالية. وكان ماركس اول من كشف عن هذا التناقض العميق بين الحريات الشكلية التي وعدت بها الليبرالية والعبودية التي ينتجها ويفرضها تحكم رأس المال على الطبقات الشعبية. وعلى رغم من الانجراف الذي قادت اليه هذه النظرية الصحيحة والذي اتخذ شكل معارضة نظام الحرية السياسية اي الديمقراطية «الشكلية» (كما كان يقول الماركسيون) بنظام المساواة الاجتماعية او الديمقراطية «الشعبية» التي تقوم على عدالة توزيع الثروة، الا ان تطور التجربة الليبرالية نفسها قد اسفر عن رؤية تكاد تكون موضع اجماع على امرين: الاول ان الديمقراطية، بما تعنيه من ضمان حرية الافراد ومشاركتهم السياسية واستقلالهم، لا يمكن ان تتحقق من دون حد ادنى من العدالة والانصاف في توزيع الثروة. والثاني ان نظام السوق، على رغم من قانون المنافسة الذي يضبطه، يقود حتما وبصورة تلقائية الى تركيز الثروة وبالتالي ايضا السلطة والمعرفة بيد فئات قليلة.
ومن هنا طورت جميع البلدان الليبرالية الأوروبية التقليدية مع الزمن سياسات اجتماعية اساسية لتجاوز هذا التناقض الى ضوابط سياسية واقتصادية واجتماعية تمنع اصحاب الرساميل من السيطرة المتزايدة على مصادر الثروة والسلطة في المجتمع وتقضي على الديمقراطية باسم الحرية.
وهكذا صار من الممكن الحديث، من دون فقدان الاتساق المنطقي، عن ديمقراطية مسيحية او اشتراكية تستمد شرعية القيم الانسانية التي تعمل من اجلها عقائد او فلسفات اخرى. وفي تركيا الراهنة يمكن الحديث عن ديمقراطية اسلامية تؤكد على الالتزام بقواعد الديمقراطية وقيم العدالة والمساواة والحرية، انطلاقا من ومع التمسك ببعض القيم الروحية والاجتماعية والثقافية الخاصة، بما في ذلك ربما التأكيد على اهمية التضامن داخل الأسرة او تشجيع المؤسسات الاهلية والخيرية... الخ.
وهذا يعني ان من الممكن تماما ان تكون هناك ديمقراطية لا تقاس سعادة المجتمع ورفاهه فيها بحجم او بعدد الحريات الفردية الممارسة. وان تكون الاسبقية فيها لقيم العدالة والمساواة والحرية، انطلاقا من ومع التمسك ببعض القيم الروحية والاجتماعية والثقافية الخاصة، بما في ذلك ربما التأكيد على اهمية التضامن داخل الاسرة او تشجيع المؤسسات الاهلية والخيرية... الخ.
وهذا يعني ان من الممكن تماما ان تكون هناك ديمقراطية لا تقاس سعادة المجتمع ورفاهه فيها بحجم او بعدد الحريات الفردية الممارسة، وان تكون الاسبقية فيها لقيم العدالة او المساواة بين المواطنين او بين الجنسين او بين الطبقات او الاقاليم والجماعات المختلفة، خاصة عندما تكون الفوارق بينها ذات طبيعة خطيرة واستثنائية.
إقرأ أيضا لـ "برهان غليون"العدد 3080 - الخميس 10 فبراير 2011م الموافق 07 ربيع الاول 1432هـ
أحسنت أستاذ برهان
مقال جميييل وضع النقاط على الحروف فيما التبس عندي