بينما يجلس أكثر من ستمئة من مختلف الجنسيات في معسكر الاعتقال غوانتنامو تحت وطأة أوضاع مزرية للغاية لأن الولايات المتحدة الأميركية تتهمهم بالإرهاب فإنه بوسع شادي عبدالله - الذي يقول إنه عمل لفترة قصيرة حارسا شخصيا لزعيم منظمة «القاعدة» أسامة بن لادن - الشعور بسرور كبير لأنه يحاكم في ألمانيا. منذ أسبوعين تجري محاكمة شادي وهو، بحسب اعترافاته، فلسطيني يحمل الجنسية الأردنية، يبلغ من العمر 26 عاما، اعتقلته سلطات الأمن الألمانية بعد أن توصلت إليه عن طريق رصد المكالمات الهاتفية بين زعيم حركة «التوحيد» المقربة من «القاعدة» أبومصعب الزرقاوي ومؤيديه في ألمانيا وهذه أول محاكمة لعضو في حركة «التوحيد» التي حظر وزير الداخلية الألماني أوتو شيلي نشاطاتها في ألمانيا.
وفي شهر أبريل/ نيسان العام 2002 تم اعتقال خمسة من أعضاء الحركة في مدينة كريفيلد بولاية شمال الراين وستفاليا بعد عملية مراقبة دقيقة لتحركاتهم ورصد مكالماتهم الهاتفية مع زعيمهم أبومصعب الزرقاوي الذي تتكهن المخابرات الألمانية بأنه موجود على الحدود بين باكستان وأفغانستان. غير أن هيئة محكمة دوسلدورف لا تواجه التعقيدات التي واجهتها محاكم أخرى عند النظر في دعاوى ضد متهمين بالإرهاب، لأن شادي أبلغ المحققين بعد اعتقاله أنه على أتم الاستعداد لتقديم اعترافات شاملة لهم وتأكيدها أمام المحكمة. ولأن شادي، متهم من نوع خاص ومتعاون إلى أقصى حد، فإنه يخضع منذ وقت لحماية أمنية مشددة. وكانت شهادته أمام محكمة هامبورغ ضد المغربي منير المتصدق، قد دفعت هيئة المحكمة إلى إدانة الأخير بالتعاون في التخطيط لهجوم 11 سبتمبر/ أيلول 2002 وأمرت بحبسه خمسة عشر عاما هي العقوبة القصوى في ألمانيا. ويعتزم المدعي الفيدرالي العام استخدام شادي شاهدا في عدد من المحاكمات المقبلة لأشخاص يواجهون تهمة الانتماء إلى تنظيمات إرهابية أجنبية والتخطيط للقيام بأعمال عنف داخل ألمانيا.
غير أن هيئة محكمة دوسلدورف تقف أمام السؤال الذي طرح نفسه على ضوء ما قدمه شادي من اعترافات حتى الآن إذ تبين لحماة الأمن الألمان أن «القاعدة» كانت تخطط للقيام بأعمال عنف داخل ألمانيا على رغم أن قادتها لم يتطرقوا إلى اسم ألمانيا في دعواتهم مؤيديهم إلى مهاجمة أهداف في عدد من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة ثم بريطانيا وفرنسا والدنمارك وإيطاليا واسبانيا... هل يجب أخذ كل ما يقوله شادي على محمل الجد أم انه يحكي لهيئة المحكمة قصصا من وحي الخيال؟
يوم الجمعة الماضي أثارت اعترافات شادي ضجة في ألمانيا حين قال إنه كان يجري التخطيط للقيام بأعمال عنف ضد عدد من الأهداف اليهودية في مدينتي برلين ودوسلدورف. ففي العاصمة الألمانية كانت حركة «التوحيد» بحسب اعترافات شادي تخطط لتفجير المتحف اليهودي وقال إنه قام شخصيا بجمع معلومات عن هذا الهدف بعد أن أمضى بعض الوقت يبحث عن هدف يهودي في برلين لكنه سجل وجود حراسة أمنية مشددة على هذا الهدف. وفي دوسلدورف قال شادي إنه كان يجري التخطيط لتفجير مرقص في الحي القديم يقصده يهود وبار تمتلكه سيدة يهودية. أبلغ شادي المحكمة أنه كان من المخطط له استخدام قنابل يدوية في تنفيذ الهجوم. ردا على سؤال القاضي إذا كان شادي على استعداد لتنفيذ عملية انتحارية قال إنه لم يفكر في ذلك لكن أحد أعضاء الحركة عبر عن استعداده للقيام بعملية انتحارية.
في اعترافاته التي تعطي هيئة المحكمة والرأي العام في ألمانيا صورة عن طبيعة عمل خلايا الإسلاميين المتطرفين، قال شادي إنه تعلم خلال وجوده في أفغانستان كيفية صنع سموم قاتلة. وأوضح أن أحد المدربين في هذا المجال وهو مصري الجنسية، علمه كيفية صنع مادة سامة من اللحم والذرة ومن فشل الخيول، ودس هذه المادة في المشروبات والطعام. كما قال إنه شارك في تدريب لمدة أسبوعين على تخطيط وتنفيذ أعمال تفجير. وكان شادي عبدالله قد أبلغ هيئة المحكمة في أول جلسة أنه عمل فترة قصيرة حارسا شخصيا لأسامة بن لادن وكان يقف خلف زعيم «القاعدة» بسبب طول قامته لكنه فضل العودة إلى أوروبا بعد تعرضه للإصابة.
كيف يمكن أن يقدم شادي كل هذا السيل الجارف من الاعترافات في وقت قصير ويربك أجهزة الأمن الألمانية التي كانت تعتقد جازمة أنها بعد هجوم 11 سبتمبر فرضت إجراءات مشددة على الإسلاميين المتطرفين وعلى رغم هذا، كادت القنابل تتطاير في برلين ودوسلدورف وربما في مدن أخرى. كلما زادت اعترافات شادي زاد قلق أتباع حركة «التوحيد» وخصوصا المعتقلين منهم في ألمانيا وكذلك زاد حرج حماة الأمن الألمان. منذ أسبوعين، يقص شادي عبدالله الذي نفى أن يكون عضوا في «القاعدة» على هيئة محكمة دوسلدورف معلومات عن طبيعة عمل منظمة «القاعدة» على رغم إصراره على أنه ينتمي إلى حركة «التوحيد». هل يقول المدعى عليه الحقيقة؟
بعد اعتقاله في 24 أبريل العام الماضي صرح شادي أنه أطلع محققي مكتب الجنايات الفيدرالي (البوليس السري الألماني) على كل ما يعرفه وقال لهم إنه لم يشارك أبدا في التخطيط لأعمال عنف وظل متمسكا بأقواله في عملية استجواب أخرى تمت خلال شهر مايو/ أيار 2002 لكنه صحح أقواله بعد أيام وقال إنه قام بتحضير الأسلحة، لكن أقواله لم تحدث ضجة كبيرة آنذاك مثلما الحال الآن أمام محكمة دوسلدورف. وقال إنه لم يقر باعترافات شاملة خلال التحقيق معه وأنه رغب في انتظار المحاكمة ليفعل ما يناسب مصلحته، ويبدو أن فرصته كبيرة بأن يتحول إلى شاهد ملك عملا بقانون ألماني يوفر الحماية للمتهم إذا قدم إلى المحكمة معلومات ترشد إلى متعاونين معه وتفضح خططهم.
هكذا أصبح شادي شاهدا في خدمة السلطات الألمانية وصدر أول اتهام بشأن التشكيك في نزاهة أقوال شادي من طرف أندرياس شفارتسر وهو محام من مدينة ميونيخ موكل بالدفاع عن عضو آخر في حركة «التوحيد». ونقل عن محام فلسطيني يحمل الجنسية الإسرائيلية يدعى جميل عزمي المكلف أيضا بالدفاع عن متهم عربي آخر: «ينبغي التعامل بحذر شديد تجاه أقوال شادي». وتم إخلاء سبيل موكله بسند كفالة لأن المحكمة العليا لا تعترف بأقوال الشاهد الملك. يعترف المراقبون أن شادي يضفي على القضية تعقيدا، فالشكوك كبيرة في صحة اعترافاته بالنظر إلى عدم خبرته في استخدام الأسلحة، وأن يكون قد عين حارسا شخصيا لأسامة بن لادن فقط بسبب طول قامته، كما يشك المراقبون في أن يكون قد استطاع التعرف على زعيم «القاعدة» خلال الفترة القصيرة التي قضاها في أفغانستان ويعتقد أن كلامه عن بن لادن من وحي الخيال.
إن أكثر ما يحير المحققين أن شادي عبدالله خلط بين الحقيقة والخيال. المحققون على الطرف الآخر يعتقدون بأن غالبية الاعترافات التي قدمها، صحيحة، وقام خبير في الشرطة الفيدرالية بالتحقق من أقوال شادي التي تتطابق مع معلومات الجهاز الألماني، منها، على سبيل المثال، مسألة تأمين جوازات السفر لأعضاء حركة «التوحيد» وإخفاء مسدس في مطعم بمدينة إيسن يحمل اسم «صحارى» إذ تبين أن أقواله كانت صحيحة هنا كما قدم معلومات عن مجموعة من الأشخاص الذين زاروا أفغانستان وتدربوا في قواعد تدريب تابعة لـ «القاعدة» بينهم من يحملون الجنسية الألمانية.
الواضح أن استراتيجية شادي ترمي إلى تقديم معلومات إلى محكمة دوسلدورف لهدف الحصول على عقوبة مخففة. ففي أسوأ حال سيحصل شادي على حكم بالحبس عشرة أعوام وكلما زادت أهمية المعلومات التي يقدمها، راهن على عقوبة مخففة. بعد نهاية محاكمته في سبتمبر المقبل على أقصى حد سيكون بوسع شادي مواصلة العمل في خدمة سلطات الأمن الألمانية والظهور كشاهد ملك في محاكمات متهمين آخرين يجري الإعداد لها ويخطط عملاء مكتب الجنايات الفيدرالي لدور بارز يقوم به شادي في المحاكمات المقبلة. وقد مر شادي بتجربة مماثلة قبل سنوات. فهذا الشاب الذي جاء إلى ألمانيا للدراسة والعمل ثم انتهى الأمر به إلى العمل في مجال الدعارة، استعانت به الشرطة الجنائية بمدينة دورتموند شاهدا أمام المحكمة في سياق التحقيق في محاولة اغتيال مفتش يعمل في شركة مكافحة المخدرات
العدد 308 - الخميس 10 يوليو 2003م الموافق 10 جمادى الأولى 1424هـ