تواجه انتفاضة يناير المصرية مشكلة فوضى البدائل. فهناك شبه توافق على تغيير السلطة ولكن البديل لايزال في طور الغموض نظراً لعفوية التحرك الشعبي وتنوع مصادره وتعدد مراجعه.
فوضى البدائل مشكلة سياسية ولكنها في النهاية تعكس بشكل طبيعي الحال العامة للشارع الغاضب وأزمة العلاقة بين السلطة والناس. فالانتفاضة مدينية في تكوينها الاجتماعي وهي تجمع في دائرتها تعارضات المجتمع في مختلف أطيافه وألوانه الأيديولوجية. فهناك يقف في ميدان التحرير اليساري إلى جانب القومي (الناصري) والعروبي إلى جانب الإسلامي والإسلامي إلى جانب الليبرالي - الديمقراطي. حتى أنصار النظام وتلك الفئات المهمشة في مؤسسات السلطة لم تتردد وتعلن تعاطفها مع انتفاضة يناير التي تطالب بالتغيير.
الإجماع على مطلب التغيير لا يعني بالضرورة حصول التوافق بين القوى على البديل. فهناك آراء متقاربة ولكنها ليست متطابقة في رؤية مسار التحول وكيفياته وأساليب التعامل مع التنازلات التي تقدمها السلطة يومياً. والاختلاف حسنة لكونه في النهاية يكشف عن طبيعة التوجهات المضمرة التي تتطلب بعض الوقت لإظهار برامجها وتوضيح خططها في مرحلة التسلم والتسليم وحقبة «ما بعد مبارك».
فوضى البدائل مسألة طبيعية في انتفاضة جماهيرية عفوية وغير منظمة تقودها تيارات سياسية تقاطعت مصالحها على تغيير السلطة وتنحية رأسها. وبسبب غياب القوة القائدة للشارع تتمظهر في الساحات شعارات متغايرة في توجهاتها سواء على مستوى التعامل مع وعود السلطة أو على مستوى الحلول التي تطرح للتداول بين القوى التي تتحاور أو ترفض الحوار.
حتى الآن تبدو التوجهات الأيديولوجية قابلة بمبدأ التعايش الذي يضمن وحدة الشارع ويوحد المشاعر في إطار معادلة جديدة أخذت ترتسم ملامحها في الخطاب السياسي البديل. فالخطاب المزدحم بالأفكار يعبر في النهاية عن حيوية الشارع المصري الذي خضع طوال 30 عاماً لنوع من الترويض الرسمي المعطوف على الإحساس بالاستكانة والإهانة والتهميش وقلة الاحترام. وهذه الحيوية المقهورة لم تتأسس في يناير ولم تكن بنت لحظة عابرة وإنما جاءت نتاج تحولات وتراكمات مكبوتة أخذت تتبلور تباعاً منذ تسعينات القرن الماضي.
في مطلع العقد العاشر من القرن العشرين حصلت تطورات عالمية وإقليمية كان لها تأثيرها على القوى والأحزاب المصرية والعربية ما دفعها إلى تعديل خطابها وأدى بها لاحقاً إلى إسقاط الكثير من خلافاتها الأيديولوجية السابقة. آنذاك تداعى الاتحاد السوفياتي وانهار المعسكر الاشتراكي وخسرت الأحزاب اليسارية مرجعها الدولي ومظلتها العالمية. وساهم هذا التحول الدراماتيكي السريع في الضغط على التيارات الاشتراكية العربية وفرض عليها مراجعة الكثير من مقولاتها ما اضطرها إلى إعادة قراءة تعاملها مع الواقع والقوانين التي تحرك نمط الناس وحياتهم الاجتماعية. وفي العقد نفسه تصادف وقوع حرب الخليج الثانية وإقدام الولايات المتحدة على توجيه ضربة مدمرة للعراق في العام 1991. وساهم هذا التحول الدراماتيكي والسريع في إثارة السؤال عن الهوية العربية ومعنى التضامن العربي وخلفيات الانقسام العربي على مسألة أزمة الكويت. وأدى الأمر المذكور إلى نمو نوع من الفراغ السياسي ضمن جماعات العروبة والقضية القومية ما اضطر بعضهم إلى البحث عن مخارج تحصن الفكرة الوحدوية من مخاطر الاضمحلال. كذلك واجهت التيارات الإسلامية أزمة دولية حين اكتشفت أن سقوط الاتحاد السوفياتي أعطى فرصة للولايات المتحدة بإعداد خطة هجوم على العالم الإسلامي بذريعة مكافحة الإرهاب. وشكل العداء للإسلام بوصفه القوة العالمية البديلة عن الشيوعية مناسبة للمراجعة وإعادة قراءة السياسة الدولية من منظار مخالف للفترة السابقة.
لعبت التحولات الدولية والإقليمية والعربية دورها في تأسيس خريطة طريق لنمو خطاب سياسي بديل يتصالح تحت سقفه اليساري مع القومي مع الإسلامي. فالانقلاب الذي أدى إلى انهيار المعسكر الشرقي في مواجهة الغربي (سقوط جدار برلين مثلاً) أحدث نقلة نوعية في تفكير اليساريين العرب فاتجه البعض إلى التفاهم مع توجه الولايات المتحدة ومقولات الديمقراطية والليبرالية بينما اتجه البعض الآخر إلى اختيار طريق التساكن مع التيارين القومي والإسلامي والتفاهم معهما على الحد الأدنى.
الأمر نفسه حصل مع التيار القومي العربي الذي أصيب بإحباط سياسي بعد ضربة العراق في العام 1991 ما دفع الغالبية منه إلى التقرب من الإسلاميين في محاولة للمصالحة بين القومية والدين. كذلك تكرر الأمر مع الإسلاميين حين بدأت إدارة واشنطن حملة مطاردة دولية تعززت بعد هجمات سبتمبر 2001 من خلال إعلان الحرب العالمية على الإرهاب والعالم الإسلامي. وساهمت الحملة الأميركية في إسقاط الكثير من التحفظات الإسلامية على أيديولوجيات التيارات اليسارية والقومية ما أدى لاحقاً إلى تشكيل هيئات مشتركة تجمع اليساري والقومي والديني في إطار المصلحة والمصير الواحد.
لعبت الظروف الدولية والإقليمية والعربية دورها في دفع القوى الأيديولوجية التي كانت متخاصمة في الأربعينات والخمسينات والستينات والسبعينات وصولاً إلى الثمانينات إلى البحث عن نقاط مشتركة تجمع أكثر مما تفرق. فاليساري (الملحد) الذي كان يرى في القومية والدين مصادر التخلف وعوائق التقدم اتجه نحو تعديل مساره والقبول بالأمر الواقع. والقومي العربي الذي كان يرى في الإسلام دعوة رجعية إلى الماضي والخلافة ومشكلة عقائدية تعطل بناء الدولة الوطنية تراجع عن مقولاته وأخذ يتعامل مع الدين بوصفه قوة تاريخية تحافظ على اللغة العربية وتدافع عن هوية الأمة. والإسلامي الذي كان يختصر اليسار بمفردة الإلحاد والتبعية لموسكو لاحظ وجود عناصر إيجابية يمكن مخاطبتها من روحية الدين الذي يطالب بالعدل والخير والمساواة ورفض الظلم. كذلك وجد الإسلامي في القومي قوة رديفة لكونها لا تستطيع الخروج على الجغرافيا والتاريخ والدور الذي لعبه الدين في نشر الدعوة عالمياً ما أعطى للعرب موقعهم وخصوصيتهم في العالم الإسلامي.
أدت كل هذه التحولات إلى إسقاط الخلافات الأيديولوجية السابقة وإعادة مراجعة محطات الانقسام ما ساهم في التقارب وتقريب وجهات النظر تحت مظلة عامة تجمع الاتجاهات على قواعد تتقاطع مصلحياً على تحقيق مهمة التغيير. هذا التجاور الأيديولوجي بين المجموعات السياسية لم تلاحظه الكثير من الأنظمة العربية التي استمرت في التعامل مع التيارات انطلاقاً من فرضية الاختلاف المزمن بين اليساري والقومي والديني وصعوبة توافقها وتحالفها وتضامنها. وعدم انتباه بعض الأنظمة إلى تفصيلات هذا التطور في الخطاب السياسي العربي أدى بها إلى نسج قراءات خاطئة في التعاطي مع هذه الموجة المقهورة والمقموعة التي تأسست نواتها الأولى في ضوء التحولات الدولية والإقليمية والعربية المترافقة مع إحباطات اجتماعية وتنموية وسلطوية في غالبية الدول الممتدة من المحيط إلى الخليج.
التسعينات كانت بداية التحول في خطابات القوى اليسارية والقومية والإسلامية مضافاً إليها انحياز توجهات ليبرالية وديمقراطية وقوى اجتماعية نامية ومتضررة من احتكار السلطة لمصادر الثروة والقوة إلى فكرة التغيير فأخذت تتقاطع رؤيتها مع تصورات خصومها الأيديولوجيين. كل هذا التعديل والتصحيح في خطابات قوى الاعتراض تجاهلته معظم الأنظمة أو أنها لم تلاحظ تأثيراته ودوره في تشكيل رؤية سياسية جامعة تتقاطع في وسط دائرتها مسألة الحاجة إلى التغيير وضرورة الخروج على الاستبداد.
المشاهد التي ارتسمت معالمها السياسية في تونس وبعدها مصر تعكس في النهاية رغبة في التغيير. ولكن هذه الرغبة لم تكن نتاج لحظة بعينها وإنما تأسست على مجموعة تحولات حصلت تباعاً منذ أكثر من عقدين دفعت بالقوى الأيديولوجية المتخاصمة إلى إسقاط خلافاتها والقبول بالأمر الواقع والتعامل بعقلانية مع المجتمع وحاجات العصر من دون مراهنة على مرجعية دولية أو إقليمية. وساهم هذا التطور في الخطاب السياسي العربي في تكوين بديل شامل وجامع تتقاطع في وسطه الرغبة في تعديل صورة المشهد والتخلص من أنظمة فقدت وظائفها واستنزفت طاقتها.
هذا البديل أصبح الآن في الطرقات والشوارع والميادين وأخذ يفاوض على التغيير في تونس ومصر، ولكنه يعاني من فوضى في التعامل مع الوقائع وأسلوب تخطي أزمة الانتقال من مرحلة إلى أخرى. فالبعض يطالب بالإسقاط والبعض بالإصلاح والبعض بالانقلاب والآخر يكتفي بالحد الأدنى في مواجهة تيار آخر يطمح نحو الحد الأقصى. الفوضى في البدائل مشكلة سياسية ولكنها في النهاية تعكس الحال العامة في الساحات والشوارع التي زحفت إليها الجماهير بعفوية ومن دون قيادة تنظيم مدفوعة برغبة التغيير وبغض النظر عن خريطته وإشكالياته الدستورية وبرنامجه المستقبلي.
حتى الآن نجحت فوضى البدائل في تجنب الصدام مع المؤسسة العسكرية التي توفق بين مطالب الناس وحماية السلطة، ولكن استمرار الأزمة يطرح تخوفات عن طبيعة الحل بين قوى تريد الانقلاب على النظام وقوى تريد التغيير من داخل النظام. فهل تنجح قوى الاعتراض في تشكيل بديل واضح واستخراجه من الفوضى كما كان أمرها حين أسقطت تحفظاتها الأيديولوجية بعد تسعينات القرن الماضي، أم تقع في مصيدة الفراغ وتصاب بالإحباط؟ المسألة تواجه تحديات لكون التغيير في أنظمة متكلسة ليس سهلاً ولكنه أيضاً لا يرقى إلى المستحيل، المسألة تحتاج إلى وقت ولعل الأسبوع المقبل سيكون حاسماً في توضيح الإجابة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3079 - الأربعاء 09 فبراير 2011م الموافق 06 ربيع الاول 1432هـ
قبل ان أقرأ المقال ..
إن لم يكن كل المفكرين المنصفين فأغلبهم اجمعوا على ان مايحدث في مصر ثوووورة وليس انتفاضة
يااستاذ وليد مع حترامي لك ..