«وُلِدَ الإنسان حُرّاً إلا أنه في كل مكان مُكبّلٌ بالأغلال» هكذا يبدأ الفيلسوف السويسري (جان جاك روسّو) كتابه (في العَقد الاجتماعي) الذي طرح فيه رؤيته للحكومة والمجتمع، والذي انبثقت منه كثير من المبادئ الإنسانية في العالم. يقول روسو بأن العقد الاجتماعي هو اتفاق الأفراد على إخضاع حقوقهم وسلطاتهم للمجتمع، أما السلطة فإنها تنزل عند الإرادة العامة. ثم يذهب روسو في تعريف الإرادة العامة على أنها ليست إرادة الأغلبية، بل إرادة المجتمع، ويفترض بأن للمجتمع كياناً مستقلاً، تنبع إرادته من تاريخ الجماعة التي تسكنه وحاضرها وتطلعاتها، محاولاً بذلك إخراج المجتمع ككل من سيطرة الجماعات التي سميّت لاحقاً بـ «الأغلبية».
لقد حاول روسو في تلك النظرية أن يُنظّم العلاقة بين أفراد المجتمع بعضهم البعض قبل تنظيمها بينهم وبين السلطة، حيث افترض بأنه إذا وُجدت آلية لِتَوَافق الجماعات، العرقية أو الدينية أو الأيديولوجية، في داخل المجتمع، فإن التوافق مع السلطة سيكون سهلاً، وخصوصاً أنه يشترط على السلطة أن تتخلى عن حقوقها لإرادة المجتمع بأكمله لكي يتساوى أفراد السلطة وأفراد المجتمع أمام القانون، وبذلك يحلّ القانون محل كل غريزة.
لقد كان عصر روسو، أو ما يعرف بعصر التنوير، الذي سبق قيام الثورة الفرنسية العام 1789، عصراً مليئاً بالرؤى السياسية والأفكار الفلسفية التي انطلقت منها مبادئ حضارية كثيرة أُسست عليها الأنظمة الديمقراطية في أوروبا وأميركا. ولقد ساهم وجود نخبة من الفلاسفة والمفكرين في تلك الفترة، في إيجاد حراك سياسي ورؤى فكرية عميقة، نقلت الشعوب من الفوضى إلى الاستقرار.
وكان للتفاعل بين الفلاسفة الإنجليز، من أمثال جون لوك وفرانسيس بيكون وتوماس هوبز، وبين السلطة ورفض غالبيتهم لسيطرة الكنيسة، أثر كبير في توليد رغبة لدى الشعوب المضطهدة في فرنسا وأميركا للتحرر من فساد السلطة وسيطرتها المطلقة على الشعوب، ساهم في ذلك تأثر فلاسفتهم مثل (فولتير) في فرنسا وقادتهم مثل (توماس جيفرسون) في أميركا بكتابات أولئك الفلاسفة، حتى أنه يقال بأن جيفرسون تأثر بأفكار لوك ومونتسكيو عندما كتب إعلان استقلال الولايات المتحدة، وتأثر كثيراً بفكرة روسو القائلة بعدم أهمية الشكل الذي تتخذه السلطة، ولكن يهمه أن تبقى السيادة في يد الشعب على الدوام.
إن الدولة التي تقوم على المعرفة تدوم طويلاً، وذلك لأن أركانها تُبنى على قواعد صلبة، ولا يمكن إيجاد تلك القواعد دون مفكرين وفلاسفة يرصفون الطريق الصحيح لقيامها، ويدلّون شعوبها على الطريقة المُثْلى لفعل ذلك. لقد كان تأثير بضعة رجال حُكماء كفيل بقيام ثورتين تاريخيتين، الأميركية ومن ثم الفرنسية، اللتان كانتا نقطتي تحول في التاريخ الحديث، ومناط تغيير لمسيرة التاريخ الإنساني. فالثورات التي تنبثق من عقول الفلاسفة، خير من الفلسفة التي تنبثق من عقول الثوار، ولذلك فإن الثورات المُشتتة التي لا تدري ماذا تُريد تذبُل بعد انتصارها، وغالباً ما تأتي فئة من أصحاب المصالح لتقتات على دماء الشهداء الذين راحوا ضحايا في تلك الثورات، وتخطف جهود الشعوب الثائرة قبل أن تقطف الشعوب ثمار ثوراتها.
لقد طرح روسو ولوك العديد من النظريات التي تبناها الأميركان والفرنسيين على السواء، من أهمها قول لوك إن الغرض من الدولة هو الحفاظ على الحرية والمِلْكية اللتين يكتسبهما الأفراد من خلال العمل والإنتاج، وكان يدعو إلى تنظيم العلاقة بين الأفراد والسلطة عن طريق اتفاق مبرم بينهما، يُحدد حقوق الأول وصلاحيات الثانية، وإذا ما هددت السلطة الحقوق الطبيعية للأفراد، فإنه من حق المحكوم في هذه الحالة أن يعيد النظر فيما أقدم عليه من تفويض لهذه الحكومة، وله عند الضرورة أن يثور عليها. وقد اتفق روسو ولوك وغيرهما من الفلاسفة على مبدأ «رضا المحكوم بالحاكم هو مصدر شرعية الحكم وأن حرية الفرد هي الأصل» وهذا كله يصب في سياق نظرية العَقد الاجتماعي. أدت هذه التنظيمات الفكرية إلى دفع الشعوب الأوروبية والأميركية حكوماتها إلى مزيد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فظهرت مبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة والديمقراطية والليبرالية وغيرها من ركائز الدول الحديثة، التي لم تكن لترى النور لولا وجود فلاسفة ومثقفين قادرين على بلورتها بصورة حية. فمفهوم الإصلاح ليس بالضرورة أن يكون في وجه الفساد، فالإصلاح مذهب حضاري وممارسة عصرية تمتهنها الحكومات بغض النظر عن مستوى الفساد في دولها، والإصلاح لا يُمارس للقضاء على الفساد فقط، ولكن لتفاديه، وللارتقاء بمستوى المؤسسة السياسية في أي دولة. وهنا يفصل روسو بين الدولة وبين السلطة، فالسلطة جهاز تنفيذي يُشكل إحدى مكونات الدولة إلى جانب المواطنين والمجتمع، ولذلك تعتبر الدولة مقدسة أما الحكومة فإنها ليست كذلك.
لقد ساهمت أفكار فلاسفة عصر التنوير في تأسيس بنية تحتية للفكر الإنساني في أوروبا وأميركا، إلا أنه على الرغم من وجود تلك الكوكبة من المفكرين والسياسيين والقادة الإصلاحيين، إلا أن الثورات لم تأتِ أُكُلها إلا بعد عشرات السنين، حيث أن المعرفة تحتاج إلى وقت كي تُختزل، وتُفهم، ومن ثم تُوضع حيّز التنفيذ. وهذا يدعونا إلى التساؤل عن مصير الثورات التي تندلع في الشرق والغرب دون وجود منظرين ومفكرين ورؤى تخرج بتلك المجتمعات الثائرة من أنفاقها المظلمة، وتمدها بالمكوّنات الضامنة لنجاحها، فلقد أثبتت السنوات الستون الماضية بأن الثورات غالباً ما تكون عاطفية إن لم تتقدمها مبادئ حضارية، تنقلها من قلوب الناس إلى عقولهم ومن ثم إلى أيديهم.
لا يمكن لأحدٍ أن يلوم الشعوب المقموعة إن غضبت وثارت، ولكن في غياب الرؤى الواضحة، نخشى أن تُختزل تلك الثورات في التنفيس عن النفس والثأر للكرامة، فدَور الثورات لا يكمنُ في تغيير رموز السلطة فقط، ولكن في تغيير فكر السلطة وإصلاح هيكلها وأدواتها المتمثلة في الدستور والتشريعات والعقلية التي تُدار بها الدولة، لكي تجعل حق الإنسان وحريّته هما أساس استقرارها. يقول روسو: «عندما يتنازل الإنسان عن حريته يتنازل عن إنسانيته».
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3074 - الجمعة 04 فبراير 2011م الموافق 01 ربيع الاول 1432هـ