العدد 3073 - الخميس 03 فبراير 2011م الموافق 29 صفر 1432هـ

الخلاف مع مفتي تونس والمغادرة إلى مصر

الانقطاع عن العالم والخروج من العزلة (4)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عندما خرج ابن خلدون من القلعة إلى تونس كانت نظريات علمه الجديد (علم العمران) اكتملت كذلك تصوره لمخططات تاريخه إلى مواقفه الواضحة من الفلسفة وتاريخها، المنطق وآلياته، والفقه ومدارسه.

السؤال: ما دخل ابن عرفة (شيخ الفتيا في تونس آنذاك) بتطور أفكار ابن خلدون وانتقاله من ضفة إلى أخرى؟

كان ابن عرفة، حتى وصول صاحب المقدمة إلى تونس، استاذ جيل وأحد ألمع علماء عصره وصاحب مدرسة في الفقه تجرأ على مخالفة بعض آراء واجتهادات صاحب كتاب «الموافقات» للإمام أبو اسحق الشاطبي. فابن عرفة ليس شخصاً عادياً، وأهم من ذلك فهو أكبر من ابن خلدون سناً وصديق وتلميذ شيخ العلوم العقلية الأبلي (استاذ ابن خلدون) إذ اتصل به وتعلم وتفقه عليه عندما جاء الابلي إلى تونس وعاش فيها، كما نعلم، إلى حين غادرها ملتحقاً بسلطانه إلى المغرب.

كانت شهرة ابن عرفة (716 – 803 هجرية/ 1316 – 1400م) آنذاك أوسع بكثير من شهرة ابن خلدون وكان بمقاييس عصره أهم منه بما لا يقاس ولا يقارن. فابن خلدون كان لتوه انجز مقدمته ولم يكمل كتابة كل تاريخه بينما ابن عرفة (تلميذ الابلي وصديقه) يعتبر حجة ومحط إعجاب من سلطان تونس أبوالعباس إلى أهل المدينة والمصر، كذلك كان محط احترام وتقدير من جيله وتلاميذه.

لنقرأ مثلاً مختصر ترجمة ابن عرفة التي وردت في كتاب أحمد بابا التنبكتي (نيل الابتهاج بتطريز الديباج) الذي سجلها في نهاية القرن العاشر ومطلع القرن الحادي عشر للهجرة، وسبق أن نقلنا عنه مختصر ترجمة ابن خلدون.

إذا قارنا بين الترجمتين نرى الفارق الكبير في تقدير التنبكتي لمصلحة ابن عرفة. فهو لم يتوقف على ذكر الخلاف لأنه، بمقاييس عصر التنبكتي، لا مجال للمقارنة بين الرجلين. فابن خلدون حتى مطلع القرن الحادي عشر للهجرة (نهاية السادس عشر الميلادي) لم يكن قد لفت الانتباه أو أثار الضجة التي سيحدثها لاحقاً.

ماذا تقول ترجمة التنبكتي عن ابن عرفة؟ ينقل ثناء الإمام الحافظ السيوطي عليه وما قاله الشيخ الرصاع عنه فهو «شيخ الإسلام الإمام الأعلم الصالح القدوة» وكان منذ صغره «مشهوراً بالجد والاجتهاد والمطالعة والمذاكرة»... وأخذ القراءات العشر والحديث عن الإمام ابن عبدالسلام، والفرائض عن الشيخ السطي، وأخذ العلوم العقلية والنحو والمنطق والجدل والحساب وسائر المعقول عن ابن اندراس وابن الحباب والابلي الذي «كان يثني عليه». وينقل التنبكتي ما ذكر عن ابن عرفة من علماء عصره وتلامذته كذلك القضاة والأئمة والفقهاء الذين كتبوا عنه لاحقاً، فيذكر القاضي ابن الازرق، وتلميذه الأمام الأبّي، وتلميذه البرزي، وتلميذه البسيلي، والحافظ ابن حجر العسقلاني، وتلميذه أبوالطيب بن علوان، وتلميذه الشمس بن عمار، وصاحب المعجم تلميذه ابوحامد بن ظهيرة المكي. ويقول التنبكتي في ترجمته لابن عرفة انه «قلّ بتونس من لم يأخذ عنه» فإلى ما تقدم اضاف أسماء الشريف السلاوي، والإمام ابن مرزوق الحفيد، وأبومهدي عيسى الوانوغي وأبو عبدالله القشاني وأخوه الحاج أحمد وولده أحمد شارح الرسالة، وأبويعقوب الزغبي، والعلامة ابن عقاب، وأبويحيى بن عقيبة، وابن ناجي، والشريف العجيسي، والإمام الزلديوي وغيرهم من التلامذة «لا يحصون غرباً وشرقاً» كالبدر الدماميني وغيره من الائمة والعلماء درسوا الفقه وعلوم القرآن باشراف ابن عرفة، ومنهم ابن سلطان تونس (أبوالعباس) الأمير أبوعبدالله الحفصي.

هذا مختصر ما ورد عند التنبكتي إذ احتلت ترجمة ابن عرفة في كتابه 9 صفحات نظراً لأهميته الفائقة ودوره البارز في عصره. يقول عنه السيوطي إنه «شيخ الإسلام العالم المبعوث على رأس المائة الثامنة» (نيل الابتهاج، صفحات 463 – 472).

إذن وقع صاحبنا بعد عودته إلى تونس وقعة كبيرة. فخصمه ليس سهلاً بل هو صاحب مدرسة في الفقه ومشهور في ايامه. فابن عرفة، كما يذكر التنبكتي، خالف أئمة المذهب المالكي في المغرب وعارض شيخ الشيوخ أبوسعيد بن لب والإمام الشاطبي في «المراجعات والابحاث في عدة مسائل». وألّف في المنطق «ما يعجز عنه الفحول» وألف في الأصلين وغيرهما، وألف مختصره الفقهي الذي «لم يُسبق به في تهذيبه وجمعه وأبحاثه الرشيقة وحدوده الأنيقة» وبدأ بتصنيفه عام 772 هجرية/ 1370م وأنهاه عام 786 هجرية/ 1384م.

ولد ابن عرفة عام 716 هجرية (أكبر من ابن خلدون بـ 16 سنة) وتولى إمامة الجامع الأعظم في تونس سنة 750 هجرية (1349م) وقدم لخطابته سنة 772 هجرية واختير شيخ الفتوى سنة 773 هجرية وكان عمره آنذاك 57 سنة.

وصل ابن خلدون تونس بعد مغادرته قلعة ابن سلامة في العام 780 هجرية/ 1378م وكان عمره 48 سنة بينما بلغ شيخ الفتيا 64 من عمره. وبدأت بينهما المشاحنات والمناظرات. ورفض السلطان قطع صلاته مع ابن خلدون كذلك ابقى على ابن عرفة في منصبه لأنه عالم عصره ومجتهد في الفقه المالكي واستاذ جيل بكامله.

على رغم أن المعركة خاسرة سلفاً استمر ابن خلدون يناكف شيخ الفتيا رداً على تحريض تلامذته السلطان ضده.

نعود إلى ابن خلدون لنرى كيف قرأ خلافه مع ابن عرفة. ركز كثيراً كما ذكرنا على «البطانة» و«أهل السعايات» وأهمل الجوانب الفكرية والفارق في التجربة والسن بينهما.

لم يتهم صاحب المقدمة ابن عرفة مباشرة بالتحريض والسعي إلى تأليب السلطان ضده بل اتهم «بطانة» شيخ الفتيا الذين غصوا بارتياح علاقته مع السلطان فحرضوه عليه وفشلوا فعكفوا «على إمام الجامع وشيخ الفتيا محمد بن عرفة» (التعريف، ص 552) يستغلون ما بينهما من وحشة.

يقول ابن خلدون إن الجفاء بينه وبين ابن عرفة بدأ بسبب ثلاثة حوادث كسرت العلاقة. الأول كان مجرد نكتة (فكرة) أطلقها عليه في لقاء ضم مجالس الشيوخ «فاسودت تلك النكتة في قلبه ولم تفارقه». الثاني، انتقال بعض «طلبة العلم من أصحابه وسواهم يطلبون الإفادة والاشتغال وأسعفتهم بذلك فعظم عليه». والثالث، اشتداد غيرته بسبب تفضيل الطلبة أسلوبه في التعليم وطريقته في عرض المعارف والفقه والعلوم والفلسفة على أسلوب شيخ الفتيا «ووافق ذلك اجتماع البطانة إليه فاتفقوا على شأنهم في التأليب علي» (التعريف ص 552).

مع الأيام «كثرت سعاية البطانة بكل نوع من أنواع السعايات» فتورط ابن عرفة مع البطانة واخذ «يزيد في اغرائهم حتى اجتمعوا إليه» (التعريف، ص 558). ووصل الأمر إلى أن شهد ابن عرفة أمام السلطان أبوالعباس شهادة «في غيبة مني، ونكر السلطان عليهم ذلك».

حاول السلطان أن يفك المشكلة بالتراضي فقرر أن يأخذ معه ابن خلدون في سفراته وزياراته وحروبه ومفاوضاته في وقت كانت قناعة صاحبنا استقرت على الاقلاع عن السياسة والتفرغ للعلم والكتابة. لكنه كعادته خجل من الاعتذار فامتثل للأمر «وقد شق ذلك عليّ، إلا أني لم أجد محيصاً عنه فخرجت معه» (التعريف، ص558). وانتهى برفقته إلى «وسط تلول إفريقيا وكان منحدراً في عساكره وتواليفه من العرب إلى توزر» ثم عاد إلى تونس وأقام ابن خلدون في مزرعته الريحانة إلى سنة 783 هجرية (1381م). وعندما جاءت السنة التالية بدأ السلطان يجهز رجاله وعتاده لجولة جديدة فخاف ابن خلدون أن يكرر الأمر ويأخذه معه ويقول «خشيت أن يعود في شأني ما كان في السفرة قبلها» (التعريف، ص 559). فصارح السلطان و«توسلت إليه في تخلية سبيلي لقضاء فرضي، فأذن لي في ذلك».

تذرع ابن خلدون بفريضة الحج ليتهرب من مرافقة سلطانه بالسفرات والجولات والحملات واستفاد من وجود سفينة في مرسى تونس لتجار من الإسكندرية فركب وسط وداع «من أعيان الدولة والبلد وطلبة العلم» (التعريف، ص 559) وأبحر إلى مصر سنة 784 هجرية وهو في 52 من عمره. وبذلك انتهت المحطة الثانية من حياته (وهي الأغزر في المغامرات والأغنى في الكتابة والتأليف) ويبلغ مجموعها من سقوط ولاية بجاية، ومقتل صديقه الوزير المؤرخ، والانقطاع في القلعة، إلى المغادرة إلى تونس، وأخيراً مغادرة تونس بحراً إلى مصر قرابة 17 سنة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3073 - الخميس 03 فبراير 2011م الموافق 29 صفر 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً