كلما بدأت نشرة الأخبار، استهلّها المذيع بذِكْرِ انفجار أو كارثة بيئية في مكان ما من العالم، ثم يُتبعها بذِكْرِ عدد القتلى والجرحى، ولا ينسى أن يؤكّد بأن «الحصيلة ليست نهائية» ثم علينا أن ننتظر النتيجة لاحقاً في شريط الأخبار الذي يظهر أسفل الشاشة في صيغة «خبر عاجل». وكلما حاولتُ أن أتذكر متى كانت آخر مرة سمعت فيها خبراً تكنولوجياً أو بيئياً أو طبياً على النشرات العربية، أشعر بأنني مصابٌ بزهايمر مبكّر، حيث أن ذاكرتي لا تُسعفني للوصول إلى معلومة مثل هذه، أو رُبّما لأن خبراً مثل هذا لم يُراوِد النشرات الإخبارية منذ زمن طويل.
ومع مرور الزمن، تحولت تلك الأخبار إلى واقع يومي حتى أدمنها العقل وأصبح يُطالب بالمزيد، فقدمت له النشرات، العالمية والعربية، بضاعة جديدة لكي تُبقي فاهه مفتوحاً أمام شاشاتها وسمّتها بـ «الفضائح السياسية». وهي لا تختلف كثيراً عن فضائح النجوم والفنانين، إلا أن الفنانين لا يتحكمون بمصائر الشعوب مثلما يفعل السياسيون.
في الليلة التي نشرت فيها قناة «الجزيرة» فضائح المباحثات الفلسطينية الإسرائيلية، أرهَقَتني كثرة الرسائل التي تداولت الخبر إما بالنقد أو بالشتم أو بالتهكّم، وتحول جُلّ من أعرفهم إلى مُحللين سياسيين وناشطين حقوقيين في مجال الفضائح، على الرغم من أن غالبيتهم لا يمتّون للسياسة بأدنى صلة.
وصارت أحاديث الشارع العربي في تلك الليلة مؤلمة ومتألّمة، بغض النظر عن موقع الشارع أو إلى أين يُفضي، ولكن ما كان أكثر إيلاماً هو الإحباط الذي لمِسْتُه في حديث الشباب والفتيات على الإنترنت، حيث بدوا وكأنهم معنيون مباشرة بما يدور بين المفاوض الفلسطيني والإسرائيلي داخل الغرف المغلقة. تساءلتُ حينها: ما شأن المُستثمر الشاب في دبي، أو الموظف في الرياض، أو المُعلّمة في مسقط بتلك الوثائق! وكيف ستؤدي حُرقة مُهندس أو رسّامة في مقتبل العمر إلى التخفيف من وطأة الفلسطينيين المُشرّدين في داخل بلادهم وخارجها!
نحن لا نُقلل من شأن القضية الفلسطينية، فهي قضية مُقدّسة وحق مسلوب، ولكن كيف للشباب أن يُساهموا في دعمها عندما يهملون أعمالهم، وهواياتهم، وتطوير أنفسهم، للتحسّف على التنازلات التي قدّمها الجانب الفلسطيني - بحسب الوثائق - للإسرائيليين!
أخبرني بعض الأصدقاء بأن الجو العام في داخل مؤسساتهم الحكومية كان، في اليوم التالي لنشر الوثائق، مكتظّاً بالسلبية التي حملها الموظفون معهم منذ الليلة السابقة، بل إن بعضهم أقسم بأنه لم ينم في تلك الليلة. فسألتُ نفسي: كيف سيؤدي كل هذا إلى خروج الأمة من مآزقها المعرفية والتنموية والاقتصادية، وأي مستقبل سيكون لهذا الجيل الذي تتراقص مشاعره على أوتار الفضائح والثورات!
عندما أرى ما يحصل في فلسطين المحتلة فإنني لا أستطيع أن أقدّم أكثر من المساعدات المالية، والدعم المعنوي عن طريق الاعتصام أو الكتابة أو التمثيل أو غيرها من وسائل الدعم، والدعاء لهم بتفريج الكُرَب، ولا أستطيع أن أقضي حياتي في بُكاء ونحيب وغضب وشتم للحياة وللعالم، لأنني لا أستطيع التحكم بالحياة أو بالعالم.
إن ما يقوم به بعض شباب وفتيات الجيل الجديد، يُشبه إلى حد كبير ما قام به آباؤهم من جيل «النكسة» ذلك الجيل الذي تحطّمت آماله وأحلامه الوحدوية والقومية بعد هزيمة العام 1967، وأُصيبوا بصدمة أفقدتهم الثقة في الحياة وفي أنفسهم، حتى لم يستطع كثير منهم تجاوزها إلى اليوم، وهذه إحدى مشكلات العالم العربي، حيث غُيّبَ جيل كامل عاطفياً بعد الهزيمة، فأدى ذلك إلى تغييبهم أنفسهم بأنفسهم، فكرياً ومعرفياً ومعنوياً، فهل نُريد جيل نكسة آخر؟
إن من يعيش في فلسطين وفي مصر وفي تونس وفي كل بقعة متوترة من العالم، يحقّ له أن يثور ويغضب ويتظاهر ويفعل ما بدا له لتحرير بلده ومجتمعه، ويحق أيضاً لمن لا يعيش في تلك الأماكن أن يتفاعل معها، أما الانغماس فيها والذوبان في أحداثها وكأنها تحصل في مدينته التي لا تمت ظروفها لظروف تلك الأماكن بصلة، فإنه يقود إلى اليأس والإحباط اللذين تجلبهما الطاقة السلبية المنبعثة من تلك الأحداث.
إن السلبية مثل الرمال المتحركة، كلما تفاعلنا معها أكثر، سحبتنا في باطنها أكثر، ومثلما أنهَكَ الفساد الخزائن العربية، فإن السلبية قد أنهكت العقول العربية، وإهمالنا لحياتنا ولإبداعنا ولاهتماماتنا، لن يُحرر فلسطين ولن يقضي على إسرائيل. فإسرائيل التي كسبت دعم الدول الكبرى لم تحصل على ذلك لأن العالم يكره العرب والمسلمين، ولكن لأنها استطاعت أن تُقدّم شيئاً لتلك الدول، علمياً وتكنولوجياً وعسكرياً، فعندما أرادت سنغافورة أن تبني قواتها المسلّحة استعانت بإسرائيل، وعندما أرادت شركة (آي بي إم) أن تُطوّر تقنية استخدام الصوت عبر الإنترنت استعانت بمراكز الأبحاث الإسرائيلية، وعندما يتحدث العالم عن ديمقراطية شرق أوسطية فإنه يتحدث عن إسرائيل.
نعم، إسرائيل دولة مجازر وجرائم، والفلسطينيون مظلومون، ولكن العالم لا يتعاطف مع أصحاب الحقّ، فالعالم ليس مكاناً مثالياً للعواطف، ولا بقاء واحترام فيه إلا للأكثر معرفة وإنتاجاً وقوة، فلكي تحصل على شيء، عليك أن تقدم شيئاً، ولكي تكون لك مكانة فيجب أن تكون لك قيمة.
وخير مثال على ذلك هما اليابان ومايكروسوفت، فلا يكاد يخلو منزل في العالم من قطعة مكتوب عليها «صُنِعَ في اليابان»، ولا تكاد تخلو شركة في العالم من إحدى منتجات مايكروسوفت، ولو سقط أحد هذين الكيانين فإن العالم سيسقط خلفهما مثل حبّات الدّومينو، لذلك فإن العالم مستعدٌ لإفناءِ أمواله ومدرّعاته وخططه للحفاظ على اليابان ومايكروسوفت من أي خطر.
القضية الفلسطينية هي قضية كل عربي ومسلم، ولكن فلسطين لن تتحرر بالنواح وبالفضائح، والكلام هنا لغير الفلسطينيين، بل ستتحرر بالمعرفة التي تقود إلى إنتاج وتنمية، فالمتعلم أكثر قدرة على الانتصار، لأنه أكثر قدرة على التفكير، ومن لا يعرف كيف يفكر يسهل التغلّب عليه، لأنه يصدق كل شيء.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3067 - الجمعة 28 يناير 2011م الموافق 23 صفر 1432هـ
السلبية لا تحل الأزمة
شكرا أستاذ ياسر فعلا السلبية لا تؤدي الا للمزيد من السلبية ، بل انها تزيد الأمر سؤا ولا تحل المشكلة