شفيق الغبرا - أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www
24 يناير 2011
إن إسقاط أحد أكثر الأنظمة بوليسية في العالم العربي يؤسس لوضع جديد في العلاقة بين شعوب المنطقة وأنظمتها السياسية. المدخل للتغيير في تونس كان البطالة، مصحوبة بالقمع السياسي وسلطة الأمن والاستخبارات والفساد وتهميش المواطن، وإذا ما دققنا في الكثير من دول المنطقة العربية لوجدنا تقاطعاً في الظروف. هذا التقاطع سوف يزداد مع الوقت، ممهداً لتعبيرات بعضها عنيف وبعضها سلمي.
إن المدخل للتغيير في الواقع العربي لن يكون سوى حادثة بسيطة في يوم مشمس طبيعي وفي وقت لا يتوقعه أحد. الحدث التونسي كسر شيئاً في جدار الرهبة لدى المواطن العربي، وهو في طريقه لصناعة حالة نفسية جديدة ستعم العالم العربي حراكاً واحتجاجاً، صوتاً وممارسة.
إن الدرس الأهم ممّا وقع يمكن تلخيصه بالتالي: لا يوجد حكم في التاريخ الإنساني يحتكر السلطة لفترة طويلة ولا يخترقه الفساد ولا يصبح التسلط على الآخرين وهضم حقوقهم طريقة في الإدارة. احتكار السلطة عبر التاريخ مفسد، لأنه لا يسمح بالمساءلة وفصل السلطات، مما ينتج تحكماً بالاقتصاد وبمن يصعد ومن يسقط وبمن يغتني ومن يفتقر، وصولاً إلى تهميش وتغييب الطبقة الوسطى. لهذا السبب، ترتقي مقاومة الناس للاحتكار السياسي وتزداد مع الوقت، وصولاً إلى لحظات تاريخية. لقد دفعت الأوضاع بالشعوب العربية إلى الحائط، ولن تخرجها من هذا المأزق سوى حركات احتجاج تؤسس للمشاركة الحقيقية وتداول السلطة.
لقد أكد لنا الحدث التونسي أن خيارات البلدان العربية في التغيير ليست بين الدكتاتورية من جهة وبين التطرف الإسلامي وفرض الحدود الإسلامية من جهة أخرى. هذا الطرح أخاف في السابق قطاعات كبيرة من أبناء المجتمعات العربية وبناتها من الإسلاميين، بل وجعلها تفضل الدكتاتورية والفساد على الإسلاميين. تونس تقول لنا إنه يوجد خيار ثالث ديمقراطي يؤمن بالتعددية وتداول السلطة والدولة المدنية ويتصدى للفساد ويسعى للتنمية. الخيار التونسي يؤكد لنا أن الإسلاميين جزء من الحراك من دون أن يحتكروه ويصادروه، وأن حالهم في هذا هو حال جميع القوى الأخرى المشاركة. هذه الثورة ليست إسلامية بقدر ما هي حقوقية وإنسانية وسياسية.
ما وقع في تونس أرسل رسائل كثيرة. فتونس كانت من أكثر الدول منعا للـ «يوتيوب» ومنعاً للحريات الإعلامية وللمدونات، ولكن عندما وقعت الانتفاضة نجح المدوّنون والشبان في استخدام كل وسائل التكنولوجيا لكسر الرقابة والانتصار عليها. هذا يؤكد أن عصر الرقابة في التعامل مع الرأي الآخر هُزم في الشارع، وان قوانين الرقابة العربية التي تحد من حرية القول والكلمة والمواقع الإلكترونية والكتب والصحف والإعلام ما هي إلا خداع للنفس آن الأوان للتراجع عنها.
ويؤكد الحدث التونسي أن سلطة الاستخبارات والأجهزة الأمنية والقمعية، التي هي أكثر السلطات قوة في البلاد العربية، لا تمنع انهيار نظام في لحظة محددة. في بعض الدول العربية يحتاج تعيين كل شاب أو شابة في شركة الاتصالات إلى إذن من أجهزة الاستخبارات، ومثله تعيين الأساتذة في الجامعات والموظفين في الدولة. في بعض الدول العربية تتدخل الاستخبارات في الحياة العامة وفي الاقتصاد والحكومة والوزراء والتعيينات والترقيات والتعليم، وحتى المجاري، بل ويصبح الحاكم أسير الرؤية الأمنية في كل شيء، مما يفقده الصلة بالواقع. هناك دول عديدة في العالم العربي يتحول فيها الحاكم أسيراً للرؤية الأمنية. وعندما يتحكم الخوف بقرارات النخب الحاكمة ستكون النتائج وخيمة ومتوترة كما شاهدنا في تونس.
إن القمع يشتري الاستقرار لفترة من الزمن، لكنه يؤلب قطاعات كثيرة من المجتمع ضد النظام، كما انه يعطي صورة مزيفة عن الوضع. ويعتقد العديد من الدول أن غياب الحراك السياسي العلني يعني السكينة والموافقة. لكن الحدث التونسي يؤكد أن واقعنا السياسي هش، وأن الكثير من الحراك بإمكانه آن يقع في الظل وتحت الأرض، وأن عود ثقاب يكفي لإشعال حريق لا يتوقف. وعندما يمتلك نظام السلطة الشاملة قلما يستوعب بأن أكثر الفئات ضعفاً وتهميشاً وعزلة يكتسب جرأة وقوة غريبة في لحظة تحول وتحرر.
وتقول لنا التجربة التونسية إنه لو نفذ الرئيس السابق زين العابدين وُعودَه بعد انقلابه على حكم بورقيبة قبل عاماً، بفتح باب المشاركة وقيادة إصلاح صادق وشفاف وبناء تفاهم مع المعارضة الوطنية والإسلامية، لانتهى الأمر بحماية النظام العام ونجاح فكرة التداول على السلطة في تونس وتعميق الحياة الحزبية والسياسية وإنضاجها. لو فعل هذا لكان اليوم رئيساً لحزب في تونس يسعى لنيل الأصوات والتنافس مع بقية الأحزاب على قيادة تونس، كما هو الحال في جميع الدول الديمقراطية في العالم. كان على الرئيس بن علي قيادة إصلاح قبل عقد من الزمان لينجح في إيقاف الفساد وفتح الفرص أمام الشباب وإعلاء المشاركة السياسية.
الحدث التونسي دق ناقوس الخطر أمام القادة العرب، منذراً بضرورة تنفيذ الإصلاح السياسي الذي وعدوا به شعوبهم قبل عقد من الزمن. هذا الإصلاح يجب ألا يكون بسبب الطلبات الأميركية، كما كان الوضع العام 2003، بل بسبب طلبات المجتمعات والناس والشعوب والمنطق والكرامة الإنسانية. هناك عدة دول مرشحة لـ «العدوى التونسية» فيما لو لم تبدأ إصلاحات جادة للحياة السياسية وتجري انتخابات نزيهة وترفع سطوة الاستخبارات وتفتح الباب أمام الحريات الإعلامية والسياسية والاقتصادية. ونتساءل: هل بإمكان الأنظمة الراهنة أن تفرز من بين صفوف النخبة من يقود الإصلاح فينقذها من أزمتها القادمة؟
لا يجب أن يمر الحدث التونسي أمام القادة والمسئولين العرب وكأن تونس استثناء. إن هذا التفكير يعني مزيداً من المفاجآت في أكثر الدول العربية اعتقاداً بأن ما وقع «هناك» غير ممكن «هنا».
العدد 3063 - الإثنين 24 يناير 2011م الموافق 19 صفر 1432هـ
ماحد يتعظ للاسف
ماحد يتعظ للاسف