الانتحار نقيض الأمل. فالانتحار هو إنهاء متعمد للحياة، والأمل منبع رئيسي لتجددها. ولكن الأضداد قد تلتقي أحياناً. فقد أصبح إنهاء الحياة القسري والمتعمد على ما يبدو وسيلة للناس في قرننا العجيب هذا ومنطقتنا العربية الأعجب لإشعال الأمل في حياتهم الراكدة الرتيبة التي كانت جثة تتحرك دون روح، فمنحها الموت بعضاً من الإنعاش أو الانتعاش.
فجأة سقط النظام التونسي بعد شرارة أشعلها الشاب محمد البوعزيزي في نفسه ليحرق بها جسده ويصبح رمزاً تاريخياً لهذه الثورة الشعبية. وفجأة انتقلت عدوى الحرق انتقال النار في الهشيم إلى شباب العرب العاطلين والمقهورين والمحرومين في مختلف أقطار الدول العربية، فلم يجدوا درساً يتعلمونه من الثورة التونسية أبلغ من حرق أنفسهم!
ليس هناك مجال للتهكم من هذه الظاهرة الجديدة «ظاهرة منتحري البطالة»، فالوضع أكثر إيلاماً من أي تهكم. فهل يأمل الشباب المنتحرون أن يصبحوا رموزاً لثورة ما يوقظون بها الباقين؟ أم أنهم كانوا يبيتون نية الانتحار اليائس سلفاً، فجاء البوعزيزي ليضغط لهم زنادها؟
هل فكروا في إنهاء حياتهم أملاً في إحياء غيرهم، أم يأساً من واقعهم الذي لم يدخر أحداً من يأسه؟
والسؤال الجدلي الأهم: هل كانت ثورة الشعب التونسي لتندلع لولا أن أحرق البوعزيزي نفسه وانتحر؟
وهل يمكن أن تشتعل ثورة أخرى مشابهة في بلد عربي آخر حتى لو أحرق الشباب العرب العاطلين كلهم أنفسهم دفعة واحدة؟
على ما يبدو أصبح الانتحار حرقاً وأمام مؤسسات النظام اختراعاً عربياً جديداً خالصاً يمكن أن يتم تسجيله دولياً، على غرار اليابان وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك طريقة خاصة للانتحار مسجلة دولياً باسمها.
والانتحار حرقاً لا يقل في بشاعته عن ذلك الانتحار الثقافي الياباني التقليدي الذي يدعى «الهاراكيري»، والذي كان السبب في جعل اليابان الدولة الأولى في نسب الانتحار في العالم، وصاحبة النسبة الأعلى من المنتحرين كل عام بين الدول الصناعية الكبرى.
وحسب طريقة الهاراكيري التقليدية يقوم الفرد بقطع أحشائه بسيف صغير يشق به بطنه، ولأنها طريقة لا تسبب الموت الفوري فلابد من وجود شخص آخر يقوم بقطع رقبة المنتحر على الفور ليريحه من آلامه الرهيبة. وقد كانت هذه الطريقة البشعة في الانتحار تقليداً متبعاً بين من يهزم من محاربي الساموراي اليابانيين التقليديين.
وفي ربط ليس غريباً على ثقافتنا العربية بين الموت والشرف، ترتبط طريقة الانتحار تلك في الثقافة اليابانية بمفاهيم تحمل المسئولية. فالمهزومون في الحروب يقدمون على قتل أنفسهم بدافع تحمل مسئولية الهزيمة ومسح الخزي والعار. بل إن الثقافة اليابانية تمتدح من ينتحر بهذه الطريقة البشعة لأنه قدم حياته في سبيل هدف نبيل. وقد انتحر أشهر كتاب اليابان المعاصرين يوكيو ميشيما بطريقة الهاراكيري في العام 1970.
ثقافة الانتحار «أملاً في الحفاظ على الشرف» تفسر لنا مثلاً انتحار وزير الزراعة الياباني توشيكاتسو ماتسوكا في العام 2007 في منزله على خلفية اتهامات له بالفساد واستغلال المنصب الوظيفي في أعمال غير مشروعة. وهي ثقافة ترتكز حول معتقد ديني لا يؤمن بالقضاء والقدر، ويحمل الفرد وحده مسئولية ما يحصل له ولمن حوله، ويستدعي من باب الشرف أن ينهي الفرد حياته إن أخفق في تحمل هذه المسئولية.
إنه واقع عربي محبط ذلك الذي يحيط بالشباب العربي سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وهو واقع يزيد سوءاً يوماً بعد يوم، لكنه ليس أبداً مبرراً منطقياً للانتحار يأساً أو حتى أملاً.
لقد حرق البوعزيزي نفسه في لحظة يأس أظلمت فيها الدنيا أمام عينيه فلم يجد أمامه من حل آخر فصار رمزاً للقهر والإحباط أشعلت ثورة للأمل والتغيير والحياة. وفي المنطقة العربية مهبط الديانات السماوية التي تحرم جميعها قتل النفس، من المؤلم أن تنتشر ثقافة الانتحار قبل أن يفعّل الشباب صوت الحياة والأمل والتغيير والرحمة في داخلهم.
قال تعالى في الآية 29 من سورة النساء «ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً» صدق الله العظيم
إقرأ أيضا لـ "ندى الوادي"العدد 3061 - السبت 22 يناير 2011م الموافق 17 صفر 1432هـ
الله يرحم الشارع العربي
لا نشمت بمن أحرقوا أنفسهم بعد محمد البوعزيزي ، لأننا غير مضطلعين على الواقع الذي جعلهم يتخذون هذه الخطوة، ولكن كانت نسخة واحدة - اشعال ( الشهيد ) البوعزيزي النار في جسده - بالوقت والطريقة التي حدثت كافيا لتحريك كل الشوارع ، إنما الشوارع لم تنضج حتى هذا الوقت لأنها غير مؤهلة بعد ، فالمطلوب مراجعة النفس قبل الإقدام على مثل تلك الأفعال.
شكرا ندى الوادي
أبدعتين بجد يابنت راس رمان
كم أتوق لقراءة حقائق المعرفة والحكمة.
أقول للشعوب تريثوا قليلا ولا تزهقوا أنفسكم
هناك مخاض وربما تكون الولادة قريبة لذلك أتمنى على الشعوب العربية أن تتصبر ريثما تنضج الثمار وحينها نضحي بالدماء في سبيل الله وسبيل الكرامة والعزّة والمجد بدل أن تزهق الأنفس هكذا أنا أقدر لهؤلاء الناس معاناتهم ولكني أفضل أن تكون هذه الدماء في زخم عارم من الثورة
وربما تكن هذه بدايات هذه الثورة ولا يلام الناس على ما يقومون به ولكن هي وجهة نظر
ثقافة القص واللصق
مقال ممتاز، للاسف الشديد ان مغزى انتحار البوعزيزي وثورة تونس لم يصل الى الكثيرمن الشباب وخاصة اولئك اللذين اقدموا على اشعال انفسهم يأساً او املاً في ثورة قد تشتعل باشتعالهم. ويبدو ان ثقافة التقليد التي تسود مجتمعاتنا العربية (القص واللصق) قد غشيت عيونهم وقلوبهم لأن يفهموا بأن وجودهم احياء اكثر جدوى لتغيير اوضاعهم الى الاحسن ولو بعد حين.
ظاهرة غريبة أوصلتنا لها الحكومات القمعية
هي ظاهرة خطيرة وغريبة علينا نحن كمسلمين ولكنها في نفس الوقت جذيرة بالإهتمام لأن الذي أوصلنا إلى هذا المستوى من التفكير اليأس الحاصل لدى الشعوب العربية بسبب القهر والقمع
وما هي إلا مقدمات لثورات سوف ترخص فيها الدماء وسوف يجر الطوفان حينها كل شيء يقف في طريقه
إذا رخصت الأنفس إلى هذه الدرجة وأصبح اليأس يعم نفوس الكثير فلن يكون ذلك إلا مؤشر خطير ولكن الحكومات العربية لا يهمها اي مؤشر
هناك فرق
على الاقل الياباني الذي انتحر هو كافر بينما المسلم المنتحر كيف ينتحر. فاذا اغلقت عليه جميع الابواب فان باب الله مفتوح ولا ييأس من رحمة الله مهما ضاقت عليه الدنيا لأن الله لا ينسى المخلوقات امثال الحيوان فكيف ينسى الانسان وهو أجل المخلوقات.
المهتم
مقاله رائعه متناسجه في طيات كلماتها ولقد أعجبت بك و بالواقعيه الحاصله في الأوساط العربيه وانا من اليوم من المترقبين لكتاباتك في الأيام المقبله