دأبت وزارة الخارجية للعديد من الدول ذات الثقل العالمي على إصدار تقارير متعددة عن أنشطة دولها في الساحة الدولية سواء المتعددة الأطراف أو في إطار العلاقات الثنائية، ولقد لفت نظري ما نشرته الصحف البحرينية في أول يناير/ كانون الثاني بعنوان «التقرير السنوي لوزارة الخارجية للعام 2010» ولست في موقف تقييم التقرير من حيث الشكل أو الإخراج أو المضمون، ولكن رغبت في إبداء بعض الملاحظات العامة عليه.
الأولى: إن الهدف من أي تقرير لأية وزارة خارجية هو تسليط الضوء على أنشطة الوزارة في مجال السياسة الخارجية، ومن هنا فاعتقد أنها سنة حميدة أن تنشر وزارة الخارجية البحرينية مثل هذا التقرير في بداية العام عن أنشطتها في عام سابق.
الثانية: إن وزارات الخارجية بوجه عام ودبلوماسيها محظوظين وغير محظوظين. هم محظوظون لأنهم يتعرضون لمؤثرات دولية عديدة من مختلف الحضارات والقارات والدول، ومن ثم يتشكل لديهم أفق واسع ورؤية أكبر من أقرانهم من المواطنين، الذين لا يتعرضون لمثل هذه المؤثرات، ولذلك تجد تكوين الدبلوماسي في نهاية المطاف يختلف جوهرياً عن تكوين وفكر المواطن العادي في بلاده، حتى وإن اتفقا في الثقافة والتعليم في مراحله الأولى، وإن كان بينهما تشابه في الأصول العائلية والاجتماعية والاقتصادية. ولكنهم من ناحية أخرى غير محظوظين من زاويتين الأولى وطنية لاغترابهم عن أوطانهم ومعاناة أسرهم في حياتهم الاجتماعية والثقافية ومعاناة أبنائهم في تعليمهم وتنقلاتهم، ومن زاوية أخرى فإن نظرة المجتمع الوطني لهم غير سليمة، إذ يعتقد كثيرون أن العمل الدبلوماسي هو عمل مظهري وبروتوكولي وحفلات وهذا تصور غير صحيح.
ولهذا فإن ما قامت به وزارة خارجية البحرين بتوجيه من معالي الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة لنشر التقرير السنوي لأعمال الوزارة في جميع الصحف، ووكالة أنباء البحرين إنما هو عمل إيجابي لسد الهوة في معرفة المجتمع بما تقوم به وزارة الخارجية من أنشطة متعددة لخدمة مصالح الدولة وأمنها ورفاهية مواطنيها.
الثالثة: إن كثيراً من مسئولي وزارة الخارجية يتسمون بالحياء في الحديث عن أعمالهم وإنجازاتهم، وهذا يؤدي إلى عدم المعرفة بما تضطلع به وزارة الخارجية، والتي هي خط الدفاع الأمني الأول عن أمن وسلامة الوطن، وخط الجذب الأول للمصالح الاقتصادية والثقافية للدولة وخط الإعلام الأول في التعريف بالدولة، وخط الاتصال الأول في تمثيل الدولة والتعريف بثقافتها وحضارتها. هذه المهام كثيراً ما تكون غير معروفة على هذا النحو للعامة من أبناء الشعب، بل وأيضاً لبعض المسئولين في كثير من الدول. الدبلوماسي في الخارج يقع عليه عبء إداري وتمثيلي للدولة ورعاية مواطنيها، لا يدرك أبعاده كثيرون، وأعباء الدبلوماسي عديدة ويتحملها بحب، لأنه يتشرف بتمثيل بلاده في الخارج، ومن هنا مرة أخرى اعتقد أن نشر التقرير السنوي للخارجية البحرينية ربما يساعد على تعميق فهم المواطنين والمسئولين لأعباء العمل الدبلوماسي.
الرابعة: إن استعراض التقرير السنوي للخارجية البحرينية يلمس المرء فيه ثلاثة أمور أولها اتساع النشاط الدبلوماسي البحريني مع مختلف القارات، وثانيها دقة العرض في سرد الأحداث والمناسبات والزيارات والاتفاقيات التي وقعت، وثالثها الحياء الشديد في الحديث عما يحققونه، ومن ثم كان ذلك دافعاً لي بصفتي دبلوماسياً سابقاً، عشت كثيراً مثل هذه المواقف، لكتابة هذا المقال في محاولة لإعطاء الخارجية البحرينية ما تستحق من تقدير، وخاصة أن عدد أعضائها محدود، وهم في نشاط دائب، وعمل مستمر، وحرص على تجنب الإعلام، والتعريف بما يقومون به. وكما يمكن للمرء أن يوجه النقد لأي تقصير فإن الأنصاف يقتضي الإشادة بالعمل الجيد والمتميز لما تقوم به السياسة الخارجية البحرينية كما هو واضح من تقريرها السنوي.
الخامسة: تتعلق بطبيعة العمل الدبلوماسي وهو أنه عمل ذو طبيعة خاصة، وأن أفراده يعتزون بانتمائهم لهذا العمل الذي يعبر عن دولتهم وحضارتهم وثقافتهم وأنا دائماً أقول وكتبت ذلك في أحد كتبي عن «الدبلوماسية» بأنها فن تمثيل حضارة لدى حضارة أخرى، وهذا لا يقلل بل يضيف العبء على الدبلوماسي باعتباره مبعوثاً من رئيس دولته إلى رئيس الدولة الأخرى، ويقدم أوراق اعتماد تعبر عن ذلك، وهنا تقع عليه ثلاثة أنواع من المسئوليات. أولها أن يكون عند مستوى الثقة التي تضعها فيه قادة دولته في مظهره وسلوكه وتصرفاته وأمانته في التعبير عن سياسة بلاده ومصالحها، وثانيها إنه كمبعوث حضارة لدى حضارة فلابد أن يدرس الحضارتين ويكون حلقة الاتصال والتعريف بهما، ومن هنا يعمق التفاعل بين الشعبين فضلاً عن تطوير وتعزيز الاتصالات بين القيادتين، وثالثها أنه يحمل على أكتافه دائماً هموم وطنه وشعبه ومصالحه الأمنية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، ولذا فإنه يتحرك في الدولة المعتمد لديها ليعرف تطوراتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية، ويرسل كل هذه المعلومات لبلاده مشفوعة بمقترحاته وآرائه في كيفية الاستفادة من ذلك لمصلحة وطنه ودولته وشعبه.
إن ثمة مقولتين سائدتين عن الدبلوماسي، أولهما قديمة وتاريخية وهي أن الدبلوماسي إنسان صادق وأمين يرسل للخارج ليكذب باسم دولته. وهذا يعكس ربما ما كانت عليه الدبلوماسية في العصور الوسطى في أوروبا، أما في عصر الثورة الاتصالية فإن أي كلمة غير صادقة، سوف تضعف بل تجعل الدولة المعتمد لديها تفقد الثقة في صدقية الدبلوماسي، وتنظر إليه بدون احترام كبير. المقولة الثانية إن الدبلوماسي ممثل بارع، وهذه مقولة صادقة لأن الدبلوماسي مهما كانت معاناته يحرص على إخفاء ذلك، ويتعامل مع المواقف المختلفة بحكمة وهدوء أعصاب، وثبات، حتى يحقق أهداف دولته، وأذكر أحد سفراء مصر المتميزين هو الدكتور حسن عبدالحق، كان سفيراً لمصر في الخرطوم وكان يعاني من بعض الأمراض المزمنة، وجاءته رسالة من القاهرة أن والدته توفاها الله، وكان الرئيس حسني مبارك في زيارة للسودان، فاستمر السفير يؤدي عمله بإخلاص ودون أن يظهر عليه الحزن أو الألم حتى تمت الزيارة بنجاح، ثم عاد السفير لمصر لتلقي العزاء في والدته، ولهذا أقول إن الدبلوماسي الناجح هو كالنحلة يقطف من كل بستان زهرة يمتص رحيقها ثم يخرجها فلسفة وحكمة وخبرة ومعرفة لتغذي وطنه وشعبه.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3056 - الإثنين 17 يناير 2011م الموافق 12 صفر 1432هـ