عزيز مشواط - كاتب من المغرب، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
غادر الرئيس التونسي زين العابدين بن علي منصبه الرئاسي على وقع حرائق تونس المشتعلة، ولهيب الشارع المنفجر على خلفية مطالب اجتماعية لبلدة سيدي بوزيد. تطورت الأوضاع بمنحى لم يكن متوقعا والتحقت أكثر من مدينة بانتفاضة لا يتوقع المراقبون أن تحليق بن علي بطائرته الخاصة بعيدا عن تونس سيوقفها. وبتولي رئيس البرلمان التونسي فؤاد المبزع مقاليد الرئاسة لفترة انتقالية بعد أن فشلت محاولات أطراف من النظام بقيادة محمد الغنوشي الالتفاف، تكون تونس قد دخلت منعطفا جديدا في تاريخها المعاصر.
بعيدا عن راهنية اللحظة السياسية غير الواضحة لحد الآن، تطرح تطورات تونس على الأنظمة العربية القائمة مجموعة من التساؤلات.
صحيح أن السياسي معني بالدرجة الأولى بما يقع، لكن السؤال الأكثر عمقا يحيلنا على حقل اشتغال السوسيولوجي. أما مضمون السؤال فلا يمكن إلا أن يستمد من التراث السوسيولوجي المهتم بدراسة الحركات الاجتماعية، وهكذا ينتصب السؤال عاليا: هل ما تعيشه تونس يشكل حركة اجتماعية وصلت إلى مرحلة النضج؟
وهل تستطيع هذه الديناميكية الجديدة أن تغير جذريا بركة الوضع السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي الآسن؟ أم أن التاريخ يعيد سيناريو الانقلاب الأبيض الذي قاده بن علي على الحبيب بورقيبة مع اختلاف الحيثيات والفاعلين السياسيين؟
المتابع لتطورات الوضع في تونس يستخلص أن الفاعلين الرئيسيين في الأحداث خليط من المكونات غير المتجانسة سوسيولوجيا.
في أحداث تونس تلاقى في الاحتجاج الطالب العاطل عن العمل، مع الموظف البسيط، واتحد المحامي مع الفلاح، واختلطت الفئات بدون تصنيف أو فرز. ترى ما الذي وحد ما لا يوحد في الأعراف السوسيولوجية التقليدية إلى أن وصلت الأمور إلى نقطة اللاعودة في نظام بن علي؟
يقول السوسيولوجي الفرنسي ألان تورين في كتابه «إنتاج المجتمع» إن اكتساب الحركة الاجتماعية لثلاثة مبادئ أساسية يجعلها قادرة على الاستمرار وتغيير النموذج الثقافي السائد، وهكذا يتحدث تورين عن مبدأ الهوية.
ويقصد ألان تورين بمبدأ الهوية ضرورة تحديد الهوية الذاتية التي يمكن أن تكون متعددة ومركبة (مجموعة، شريحة اجتماعية...). ويضيف أن «السؤال الرئيسي في هذا المبدأ مرتبط بمن يحارب»؟
هل يعرف التونسيون من يحاربون؟ بالتأكيد. لكن الحس السوسيولوجي لسوسيولوجيا الفعل لعالم الاجتماع الفرنسي الان تورين سرعان ما تصاب بالدوران وعدم القدرة على مسايرة تطورات الوضع الميداني بتونس، خاصة عندما انضم عدد من السفراء ورجال الأعمال ورموز النظام إلى الحركة وأعلن سفير تونس في اليونسكو عن استقالته.
ورغم ذلك أكدت التطورات التي شهدتها تونس أن المقاربة السوسيولوجية للحركات الاجتماعية هي الأكثر ملاءمة لفهم ما يجري ليس فقط في بلاد أبي القاسم الشابي، بل في كافة بلدان شمال إفريقيا المتشابهة من حيث خصائصها الاجتماعية. لقد فهم التونسيون خصمهم بشكل موضوعي. ورغم محاولة الرئيس التونسي بخطابه الأخير تهدئة الأوضاع، إلا أن حركة التاريخ كانت قد اكتملت، وحدد التونسيون خصمهم المباشر. يقول ألان تورين في كتابه الحركات الاجتماعية: يفترض مبدأ التعارض في الحركة الاجتماعية تحديد الخصم، أي يجب أن يكون خصم الحركة واضحًا وموضوعيًا. أو بصيغة أخرى يكون الجواب واضحا عن سؤال: لماذا الحركـة الاجتماعية؟
التونسيون الذين ظلوا لوقت طويل تحت إكراهات أمنية لنظام سياسي لم يقدم للعالم سوى الوجه الأكثر إشراقا، لم يعودوا قادرين على تحمل مزيد من الضغط. وإذا كانت من قوة للحركة التي جرت في تونس فإنها مستمدة من كونها حركة كلية. إنها نتاج وعي جمعي وبصيغة جمعية وشمولية لا أقلية وفردية. وقد ساهم هذا المبدأ في نجاح الحركة من أجل التأثير على الرأي العام والحصول على الحقوق والمطالب.
إن ما عجل بانهيار نظام الرئيس التونسي بن علي فعلا، سواء من الناحية الفعلية أو الرمزية، هو شمولية الحركة. لقد فهم رموز الدولة في النظام التونسي أن الكفة تميل لصالح التغيير، إذ أصبح من المستحيل العودة بتونس إلى فترة ما قبل اندلاع شرارة الأحداث.
لقد تخلص التونسي بالرغم من حجم الضريبة التي دفعها مقابل ذلك (90 قتيلا لحد الآن) من عبء نفسي ناتج عن أكثر من عشرين سنة من الرقابة المشددة التي صار استمرارها موضوع شك منذ اندلاع انتفاضات عمالية سابقة بمدن تونسية متفرقة.
وبرحيل بن علي تثبت مرة أخرى جدوى القاعدة السوسيولوجية التالية «كل نسق مهما كانت صلابته مهدد بالتلاشي» جدواها. لأنه وبكل بساطة «يتوفر على كم محدود من الطاقة التي يقوم بصرفها للحفاظ على توازنه». وهكذا كلما ازداد تصلب النسق، كلما تضاعفت سرعة انحداره نحو التلاشي. وبحكم طبيعته الأمنية والمتصلبة، لم يستطع النظام في تونس التقاط الإشارات التي شكلت في السابق مؤشرات على تدهور الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
لم يبد نظام بنعلي أي مبادرة انفتاحية في اتجاه احتواء نبض الشارع المتصاعد سياسيا واجتماعيا وثقافيا. وفي هذا السياق يقول صاحب نظرية الأنساق السوسيولوجي الفرنسي إدغار موران «تستطيع الأنساق حفظ استمراريتها بالانفتاح، إنها محتاجة في كل وقت وحين لاستدخال طاقات جديدة، أفكار متجددة، وبنيات حديثة. أما الأنساق المغلقة فمحكوم عليها بالتلاشي».
لقد حاول النسق السياسي التونسي بقيادة بن علي تبرير انغلاقه بأكثر من مبرر. هاجم اليسار واليمين. ضيق على الحركة الإسلامية ولم يفرق بين متشدد ومعتدل. نفى المعارضة اليسارية واعتقل رموزها. أقصى الطبقة الوسطى وقلص من حظوظ ترقيها. نهج سياسة التعتيم الإعلامي وإغلاق المواقع الإلكترونية. وبالمقابل اتكأ على نظام أمني صارم وعلى ضمانات بعض القوى الدولية المساندة له بمقابل حماية مصالحها الاقتصادية.
ما وقع في تونس حركة كلية شمولية. وتبعا لهذه الخاصية يصبح من المستحيل السيطرة عليها. واستنتاجا من مبدأ الكلية عند ألان تورين، فإن أحداث تونس تدخل ضمن سياق الحركة الاجتماعية التغييرية. إن هدفها تغيير النموذج الثقافي السائد. ويصعب في الوقت الراهن التكهن بطبيعة النموذج الثقافي الذي تتجه نحوه تونس. لكن الوقائع تؤكد أن التونسيين تقودهم إرادة الحصول على حقوق جديدة، وفرض الاعتراف بالحقوق والحريات.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3056 - الإثنين 17 يناير 2011م الموافق 12 صفر 1432هـ