المحامي المنتدب من قبل وزير العدل والشئون الإسلامية للدفاع عن متهمٍ يعتبر وكيلاً يحمل صفة «الوكيل»، وأن دوره أو عمله لا يخرج عن كونه عملاً أو تصرفاً قانونياً يقوم به لحساب الموكل وخاضعاً لأحكام عقد الوكالة.
وقد عرَّف القانون المدني البحريني الصادر بالمرسوم بقانون رقم (19) لسنة 2001 في المادة رقم (640) عقد الوكالة بأنه «عقد يقيم به الموكل شخصاً آخر مقام نفسه في مباشرة تصرف قانوني».
بيد أن الاختلاف في شأن المحامي المنتدب يكمن في أن هذا المحامي مُلزمٌ دون رضاه بأداء المهمة المنتدب إليها خلافاً للقاعدة العامة، وذلك عملاً بحكم المادة رقم (41) من قانون المحاماة الصادر بالمرسوم بقانون رقم (26) لسنة 1980 التي تنص على أنه «يجب أن يقوم المحامي المنتدب بما يُكلَّف به ولا يجوز له أن يتنحى إلاّ لأسباب تقبلها الجهة التي ندبته وإلاَّ تعرض للمساءلة التأديبية».
وهذا الانتداب أو التكليف «الملزِم» لا يغير من صفة المحامي المنتدب كوكيل، كما أنه لا يؤثر على أركان الوكالة إلاّ فيما ينص عليه القانون استثناءً، وفي حدود دائرة الاستثناء المنصوص عليه فقط، كما سنرى تباعاً.
فمن المقرر أن عقد الوكالة (أياً تكن أطراف هذا العقد ونوع التصرف القانوني) له خصائص يتفق في بعضها مع كافة العقود ويتميز دون سواه في بعضها الآخر، ومن أهم خصائصه:
أولاً: إن عقد الوكالة يتميز بتغلب الاعتبار الشخصي، أي أن الوكيل والموكل قد اعتدَّ كل منهما بشخص الآخر فكانت شخصية كل منهما محل اعتبار بالنسبة للآخر، ولهذا تنتهي الوكالة بموت أحدهما أو بفقد أحدهما أهليته، طبقاً لما نصت عليه المادة رقم (658) من القانون المدني سابق الذكر.
ثانياً: يتميز عقد الوكالة بأنه عقد غير ملزم، فيجوز (بمقتضى القاعدة عامة) للموكل أن يعزل الوكيل، وللوكيل أن يتنحى عن الوكالة قبل إتمام التصرف القانوني محل الوكالة، بل حتى قبل البدء فيه. فقد نص القانون المدني المذكور في المادتين رقمي (659 و660) أن «للموكل في أي وقت أن يعزل الوكيل أو يُقيد وكالته ولو وجد اتفاقاً يخالف ذلك»، «وللوكيل في أي وقت أن يتنحى عن وكالته ولو وُجد اتفاق يخالف ذلك». غير أنه يشترط في حالة التنحي أو العزل - وفقاً لما جاء في المادتين المذكورتين - ألا يكون في وقت غير مناسب أو بغير مبرر مقبول، وأن يُبلغ الوكيل موكله بنيته التنحي عن وكالته. وهذا الاشتراط القانوني أكد عليه قانون المحاماة سابق الذكر في المادة رقم (28).
ثالثاً: إن عقد الوكالة هو في الأصل من عقود التراضي، أي توافق الإيجاب والقبول على عناصر الوكالة وعلى التصرف القانوني المطلوب القيام به. أو بمعنى أدق قبول كل من الموكل والوكيل على ماهية العقد وعلى التصرف القانوني الذي يقوم به الوكيل. وهذه الخاصية هي إحدى شروط انعقاد الوكالة وركن من أركانها الجوهرية المتمثل في ركن الرضا، ذلك لأنه حيث تكون الوكالة عقداً وجب أن يرضى بها كل من الوكيل والموكل طبقاً للقواعد العامة المقررة في نظرية العقد، فلا يجوز من ثم إكراه الوكيل أو الموكل على إبرام عقد الوكالة دون رضاه.
أما وحيث نحن نتكلم عن المحامي «الوكيل» المنتدب، فإن هناك استثناء يرد على ركن الرضا بالنسبة لهذا المحامي. فقد قلنا فيما سبق أنه يجوز إجبار المحامي المنتدب على قبول الوكالة رغماً عن إرادته خلافاً للقاعدة العامة، وذلك طبقاً لأحكام المادة رقم (41) من قانون المحاماة سابقة الذكر، وهذا الاستثناء ينسحب بالطبع على منعه من التنحي عن الدعوى في أية مرحلة من مراحلها، إلاّ إذا وجد هناك سبب مقبول يبرر تنحيه.
بيد هذا الاستثناء وفقاً لنص هذه المادة نراه يتصل بإرادة المحامي «الوكيل» وحده ولا ينصرف إلى إرادة المتهم «الموكل»، ما يعني أنه لا يجوز إكراه المتهم على قبول المحامي المنتدب للدفاع عنه وفقاً للقاعدة الاستثنائية سابقة الذكر. إذ إنه طبقاً للقواعد العامة أنَّ العقود الملزمة بين متعاقدين أو أكثر تقوم على الإرادة، أي تراضي المتعاقدين، وأن هذه الإرادة «أو التراضي» هو الركن الأساسي والجوهري في العقد، فمتى انتفى هذا الركن أو كان معيباً يمسي العقد باطلاً أو قابلاً للإبطال. فذلك هو مبدأ يتعلق بالنظام العام لا يجوز المساس به إلاّ فيما يستثنيه المشرِّع بشأنه.
وحيث رأينا فيما سبق أن الاستثناء الذي يرد على ركن «الرضا» يتصل بشخص المحامي المنتدب وحده بصفته وكيلاً، فلا يحق إذاً تطبيق هذا الاستثناء على المتهم بصفته موكلاً ليُجبر على وكيل هو غير راضٍ عنه. ذلك لأنه من المتفق عليه فقهاً وقضاءً، وقانوناً أيضاً، أن أي استثناء يرد على الأصل يجب أن يُعمل به في حدوده فقط، ولا يجوز التوسّع فيه أو القياس عليه وتحميله ما لا يحتمل إلاّ بنص صريح يقبل هذا التوسّع أو القياس، وهذا ما لم نلحظه في القاعدة الاستثنائية سابقة الذكر.
وقد رأى البعض أن «الموكل» في هذه الحالة ليس هو «المتهم»، إنما هو وزير العدل، على افتراض أن المتهم قد وكَّل الوزير بتوكيل محام للدفاع عنه، بعد أن أبدى عجزه عن توكيل محام للدفاع عنه لأي سبب من الأسباب. ويستند هذا الرأي إلى ما ورد في الفقرة (د) من المادة رقم (39) من قانون المحاماة، من أنه «يعتبر القرار الصادر من وزير العدل والشئون الإسلامية بمثابة التوكيل الصادر من صاحب الشأن». والمقصود بـ «صاحب الشأن» في مقامنا هذا هو المتهم. وكأننا هنا أمام موكل أصيل وهو «المتهم» قد وكَّل «الوزير» ليوكل بدوره وكيلاً آخر للدفاع عن الأول، وبالتالي فإنه (حسب هذا الرأي) لا يلزم البحث عن رضا المتهم «الموكل الأصيل».
غير أن هذا الرأي ليس سوى مجرد افتراض وفيه مغالطة، إذ إننا لم نلحظ في القانون المدني مثل هذا الافتراض، إلاّ في موضوع ترخيص الموكل للوكيل في إقامة نائب عنه دون تعيين لشخص النائب وفقاً لما جاء في المادة رقم (652) من هذا القانون. والحال أن النائب يختلف عن الوكيل من حيث الخصائص والشروط والالتزامات.
وحتى إن سلمنا جدلاً بهذا الافتراض، فإن المشرِّع عندما قال: «يعتبر القرار الصادر من وزير العدل والشئون الإسلامية بمثابة التوكيل الصادر من صاحب الشأن» كان يفترض بالتأكيد قبول صاحب الشأن (وهو المتهم) بالمحامي المنتدب أو المناب، فضلاً عن أن هذا الافتراض (إنْ صح) يعودنا من جديد إلى أحكام الوكالة، التي تلزم الوكيل الأصيل، ونعني به هنا «الوزير»، بأن يراعي مصالح الموكل «المتهم» وألا يخرج عن إرادته أو أن يسلبها.
أما السؤال الأهم الذي يثور هو: هل يحق للمحامي المنتدب التنحي عن الدعوى في حالة رفض المتهم له للدفاع عنه؟ فنجيب على هذا السؤال بـ «نعم» وفقاً لرؤيتنا الخاصة على الأقل، وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: إن رفض المتهم للمحامي المنتدب، يجعل هذا الأخير في موقف حرج، فهو إنْ مضى في مهمته دون رضا المتهم قد يصبح محل ازدراء واستهجان في نظر المتهم وأهله، وغير مرحب به، وهو أمر لا يليق بمركز المحامي الذي يفترض أن يكون محل تقدير واحترام واستحسان في نظر موكليه. بل إن هذا التقدير والاحترام هو الهدف الأسمى الذي يأمله المحامي والرصيد الأكبر الذي يمتلكه وهو يؤدي مهمته المقدسة للدفاع عن المتهمين أو عن الموكلين.
ثانياً: من المعروف أن المحامي (أياً يكن مركزه) مطلوب منه الدفاع عن المتهم، وهذا الدفاع يتمثل بالدرجة الأولى فيما يقدمه من مرافعات أو دفاع شفوي أو تحريري وفقاً للمعلومات والمستندات والتعليمات التي يزوده بها المتهم نفسه دون أن يعتمد كلية على أوراق الدعوى، وهكذا أيضاً بالنسبة للمدعي أو المدعى عليه في الدعوى المدنية.
فإذا كان الأمر ذلك، فإننا نفترض احتمالاً أن عدم قبول المتهم بالمحامي المنتدب وإصراره على رفضه له سيمتنع عن التعاون معه وعن مقابلته واللقاء به وعن تزويده بالمعلومات والتعليمات التي قد تكون ذات أهمية في الدفاع، فيكون هذا الأمر متى حدث بالتأكيد سبباً يبرر تنحيه عن الدعوى. إذ لو أن المحامي (سواء المنتدب أو غير المنتدب) قدم دفاعه دون اللقاء بالمتهم أو دون الاستماع إلى وجهة نظره واستقاء المعلومات منه مباشرة فلا يكون دفاعه قانونياً أو لا يكون مرضياً على الأقل، بل قد يكون عرضة للمسئولية.
ثالثاً: من المقرر قانوناً أن يجوز للموكل (وهو هنا المتهم) أن يرجع على نائب الوكيل (أي المحامي المنتدب) مباشرة عن خطئه بما قد يلحقه من ضرر، وذلك طبقاً لنص الفقرة (ب) من المادة رقم (652) من القانون المدني التي جاء فيها «فإذا رخص الموكل للوكيل في إقامة نائب عنه دون تعيين لشخصه فإن الوكيل يكون مسئولاً عن خطئه في اختيار نائبه، أو عن خطئه فيما أصدره له من تعليمات، ويجوز في هذه الحالة للموكل ولنائب الوكيل أن يرجع كل منهما مباشرة على الآخر».
فهذا النص إذاً كاف بذاته أن يُعطي للمحامي المنتدب المبرر للتنحي عن الدعوى خشية أن يرجع عليه المتهم لاحقاً بدعوى المسئولية
إقرأ أيضا لـ "علي محسن الورقاء"العدد 3054 - السبت 15 يناير 2011م الموافق 10 صفر 1432هـ
شهم
صح لسانك
aasheq