توقع تقرير HSBC الصادر في مطلع العام الجاري أن تقتصر قائمة مجموعة الثلاثين الأول في العام 2050 على الدول وفق الترتيب الآتي: الصين، الولايات المتحدة، الهند، اليابان، ألمانيا، بريطانيا، البرازيل، المكسيك، فرنسا، كندا، إيطاليا، تركيا، كوريا الجنوبية، إسبانيا، روسيا، إندونيسيا، أستراليا، الأرجنتين، مصر، ماليزيا، السعودية، تايلند، هولندا، بولندا، إيران، كولومبيا، سويسرا، هونغ كونغ، فنزويلا، إفريقيا الجنوبية.
مجموعة الثلاثين التي ستكون في صدارة الدول موزعة على القارات وفق الجدول الآتي: أميركا الشمالية (دولتان)، أميركا الجنوبية (5 دول)، إفريقيا (دولتان)، آسيا (12 دولة)، أوروبا (8 دول)، إضافة إلى روسيا وأستراليا. وهذا يعني أن
الدول الآسيوية ستكون مجتمعة في الطليعة وتأتي بعدها مجموعة الدول الأوروبية ثم أميركا اللاتينية وبعدها الشمالية وأخيراً إفريقيا.
في حال صح هذا التوقع سيشهد العالم سلسلة تغييرات سيكون لها انعكاسها على خطوط التجارة الدولية (البحرية والجوية) وحقول الاستثمار باعتبار أن الرأسمال المالي يتوجه دائماً إلى الأمكنة الربحية التي يكون فيها المردود أعلى في نسبته من المجالات الأخرى. وتغير البوصلة سيترك تأثيره على المعادلات السياسية وتوازن القوة وتقاسم الدول الكبرى لمناطق النفوذ والتحكم باتجاه القرار الدولي.
إلا أن المشاركة الدولية لا تعني بالضرورة غياب الولايات المتحدة وتراجعها عن لعب الدور السياسي الأول في المعادلة. حتى العام 2050 ستبقى أميركا صاحبة الحصة الأكبر في صوغ القرار الدولي مدعومة من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وكندا وإيطاليا وإسبانيا وأستراليا وربما اليابان وكوريا الجنوبية ما يعطي أفضلية للدول الشمالية في التأثير المعنوي على توجهات الأمم المتحدة.
القوة الاقتصادية ليست كافية وحدها لانتزاع المبادرة السياسية ولكنها قد تساهم في كسر احتكار الولايات المتحدة للقرار الدولي وتوزيع النفوذ على حصص نسبية تخضع لموازين القوى البشرية وما تمثله الدول من كثافة سكانية. فبعد 40 عاماً ستصبح الهند الدولة الأولى على مستوى التعداد إذ سيبلغ سكانها أكثر من 1600 مليون نسمة، وبعدها الصين أكثر من 1400 مليون نسمة، ثم الولايات المتحدة 404 ملايين، إندونيسيا 288 مليوناً، البرازيل 219 مليوناً، مصر 130 مليوناً، المكسيك 129 مليوناً، روسيا 116 مليوناً، اليابان 102 مليون، تركيا 97 مليوناً، إيران 97 مليوناً، تايلند 73 مليوناً، بريطانيا 72 مليوناً، ألمانيا 71 مليوناً، فرنساً 68 مليوناً، كولومبيا 63 مليوناً، إيطاليا 57 مليوناً، وإفريقيا الجنوبية 57 مليوناً، الأرجنتين 51 مليوناً، إسبانيا 51 مليوناً، كندا 44 مليوناً، والعربية السعودية 44 مليوناً، وكوريا الجنوبية 44 مليوناً، وماليزيا 40 مليوناً وأخيراً تأتي بعدها الدول الأوروبية مثل بولندا (32 مليوناً)، وهولندا (17 مليوناً)، وسويسرا (9 ملايين).
الجدول السكاني اعتبره تقرير HSBC فائق الأهمية لتقدير الموقع الاقتصادي للدولة خلال العقود الأربعة المقبلة لأنه يعطي قيمة إضافية ويساهم في توليد طاقة دينامية للتفكير والتخطيط ودفع العلاقات السياسية نحو طور أعلى باعتبار البشر يشكلون المصدر الأساس لنمو الإنتاج وقوة مستهلكة وعقول تفكر بتحسين مستوى المعيشة.
القوة البشرية هي الأساس. والإنسان هو حجر الزاوية في تقدير خبراء مصرف HSBC لأنه الركيزة الأولى للاقتصاد ويأتي ترتيبه قبل المواد الأولية والطبيعية لكون الأخيرة تستنزف مع الوقت أو تفقد قيمتها النقدية في عالم التجارة حين تتراجع الحاجة إليها. كذلك الموقع الجغرافي الإستراتيجي له أهمية كبرى في تعيين مكانة الدولة إلا أنه لا يأتي في درجة متقدمة عن الإنسان باعتبار القوة البشرية هي المحرك الدينامي لكل الحاجات والوظائف والمتطلبات الاقتصادية التي تطمح الأسر والعائلات إلى تحقيقها لتأمين الرفاهية للأولاد والأحفاد.
العامل البشري هو الأساس بحسب خبراء التقرير. وعليه قرأ الخبراء منظومة التطور وفق معادلة التعداد السكاني من دون مبالغة أو تفريط. فالإنسان هو حجر الزاوية ولكن قوة الاقتصاد لا تخضع آلياً لمعادلة السكان. فالهند مثلاً ستكون الأولى من حيث التعداد السكاني ولكنها ستأخذ الموقع الثالث في الترتيب. وأميركا هي الثالثة سكانياً ولكنها ستبقى في الموقع الثاني اقتصادياً بعد الصين مباشرة.
كذلك الفارق السكاني لا يعكس بالضرورة الفارق الكمي في ترتيب اقتصادات الدول سواء من حيث دورة الإنتاج السنوية أو من حيث متوسط دخل الفرد. مثلاً الصين ستكون الأولى اقتصادياً في العام 2050 حين تبلغ دورتها السنوية أكثر من 24 ألف بليون دولار وسيكون متوسط دخل الفرد السنوي أقل من 18 ألف دولار بينما ستكون الولايات المتحدة الثانية اقتصادياً بدورة سنوية أكثر من 22 ألف بليون وسيكون متوسط دخل الفرد أكثر من 55 ألف دولار. والهند التي ستقفز إلى المرتبة الثالثة اقتصادياً بدورة إنتاج سنوية تزيد على 8 آلاف بليون لن يتجاوز متوسط دخل الفرد مستوى 6 آلاف دولار في السنة.
المسألة إذن معقدة. فالدول الغنية إنتاجياً (كالصين والهند) ليست بالضرورة أن تكون معيشة المواطن فيها أكثر رفاهية ودخله أعلى من الدولة الأقل. فالتناسب بين الاقتصاد والتعداد السكاني ليس متعادلاً ولكنه على رغم التفاوت على المستويين (الرفاهية والدخل) يبقى الإنسان هو الدينامو (الطاقة المحركة) للنشاط الاقتصادي والتوقعات المرجوة في المستقبل. عدم التناسق بين القوة الاقتصادية والوزن السكاني يبقى مشكلة بسبب طبيعة النظام والإدارة السياسية للسلطة واحتكار الدولة للإنتاج والمال العام وضعف العدالة في توزيع الثروة كما هو حال الصين إذ تعتبر الدولة الأغنى في العالم (فائض في الميزان التجاري، احتياط نقدي هائل) بينما المجتمع لايزال يصنف من فئة الفقراء أو القوى النامية.
حال الصين (والهند أيضاً) يختلف مثلاً عن الولايات المتحدة إذا تعتبر الدولة مفلسة ومديونة بينما المجتمع يصنف من فئة الأغنياء بسبب ارتفاع دخل الفرد السنوي قياساً إلى غيرها من الدول باستثناء سويسرا (84 ألفاً) واليابان (64 ألفاً). كذلك حال المقارنة بين مصر التي سيبلغ دخل الفرد السنوي فيها في العام 2050 أقل من 9 الآف دولار مقابل أكثر من 25 ألفاً في السعودية وأكثر من 22 ألفاً في تركيا.
خريطة القوة والضعف بالغة الدقة لتقدير التوازن الدولي. فالتوازن يخضع للاقتصاد ولكنه مشروط بمجموعة عناصر تبدأ بالإنسان ومدى تعامل السلطة معه ودور الدولة في الإشراف على توزيع الثروة وتأمين الاحتياجات الصحية والاجتماعية والتأهيل المهني والحرية السياسية والمساواة بين المواطنين. وتشكل هذه الشروط قوة مضافة للاقتصاد في حال توافرها ونقطة ضعف للدولة في حال أهملت أهميتها في تطوير العلاقات وإعادة توظيفها في اتفاق إطاري مع المواطن يضمن حقوقه وواجباته الدستورية.
لكل هذه الأسباب الموضوعية والذاتية يرى خبراء تقرير HSBC أن تغير المعادلة الاقتصادية لتراتب الدول في المجموعة الثلاثين الأولى مسألة مهمة في التأثير على إعادة ترسيم خريطة التوازن الدولي ولكنها ليست الوحيدة أو على الأقل ليست حاسمة في تدوير التوجهات الدولية التي تشرف ميدانياً على صوغ القرارات في الأمم المتحدة مثلاً.
إلى الاقتصاد هناك عوامل أهم تتخطى الثروة الطبيعية والنقدية وهي تتركز أولاً في الإنسان من حيث الكم العددي (التعداد السكاني) ومن حيث احترام الدولة للمواطن والتعامل معه بوصفه ثروة فردية يتمتع بقيمة خاصة في المساهمة بالتفكير والتخطيط والتوجيه والإدارة وغيرها من عناصر دينامية تتصل بالطموح والاستعداد للتعلم والتطور. فالدولة التي تعتبر شعبها مجرد فائض بشري يثقل كاهل الاقتصاد ستتراجع إلى موقع الفشل وعدم القدرة على التكيف والتأقلم مع حاجات العصر بينما الدولة التي تتعامل مع شعبها بوصفه قوة ناشطة اقتصادياً (إنتاج، استهلاك، تفكير، تخطيط) ستصنف من الدول المتقدمة حتى لو كانت موازنتها أقل وسكانها أكثر.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3051 - الأربعاء 12 يناير 2011م الموافق 07 صفر 1432هـ
تعليق على اخر فقره
اذا كانت هذه هي العوامل التي ستحدد موقع الدوله اقتصاديا لنا ان نتوقع اين سنكون نحن
معادلة مقلوبة
بعض الدول الأوروبية "كسويسرا", تعدادها السكاني ينمو بشكل عكسي, و هم في تناقص "طفيف جداً", و ذلك نظراً لعزوف الشباب عن الزواج الشرعي, و الإكتفاء بالعلاقات غير الشرعية.