إذا تجاوزت سحابة الشيب الرمادية التي غزت شعره الكث، لايزال الروائي والناقد الأدبي العربي، اللبناني الجنسية، حسن داوود يحتفظ بالحيوية ذاتها التي كان يتجول بها في أروقة صحيفة «السفير» اللبنانية، القريبة من»نزلة سينما السارولا» بشارع الحمرا، أو يطل بها بشكل مفاجئ في إحدى غرف دار الكلمة في آخر شارع السادات من المنطقة ذاتها.
تلك الحيوية، وذلك الشلال المتدفق لطريقته في الحديث عن «حسرته» على واقع الأدب العربي عموماً، والرواية العربية على وجه الخصوص، هما سمتان تميزانه، يضيف لهما ثالثة، هو عدم نسيانه أن ينهي الحوار، وعلى طريقته الخاصة بمجموعة من أبيات شعر لأبونواس، أو ابن ربيعة، كي يلفت نظر من يحدثهم أن أوضاع الأدب العربي قبل ما يزيد عن ألف عام، كانت أفضل، نسبة للمرحلة التاريخية، مما هي عليه اليوم.
تلك الصورة كانت تحتل مخيلتي، وأنا في طريقي إلى مركز الشيخ محمد بن إبراهيم آل خليفة الثقافي كي أستمع إلى محاضرة حسن داوود الموسومة «هل نحن في زمن ازدهار الرواية العربية أو زمن انهيارها».
وما يميز حسن، عن الكثيرين من سواه من النقاد العرب، أنه يشغل مقعدين متواجهين، فمن جانب هو ناقد أدبي متألق، وبالقدر ذاته هو كاتب روائي مشوق، تكفي الإشارة إلى روايته الأولى «بناية ماتيلد» التي صدرت في العام 1983، ثم أعيدت طباعتها في العام 1999، كي يكتشف القارئ العربي، في أحداث تلك الرواية، وشخوصها، لوحة اجتماعية لإفرازات الحرب اللبنانية، يصعب على ريشة أخرى، غير التي يمتلكها حسن، أن تحسن رسمها.
كعادته بدأ حسن محاضرته، أشبه، كما قال لي صديقنا المشترك الذي كان يجلس إلى جانبي، وليد نويهض، بفنان يرسم إحدى منمنماته، يغوص في الضرورية، تماماً كما يفعل في رواياته، أو كمن يحفر في الصخور منقباً عن آثار يعيد صقلها، بعد اكتشافها، في قوالب جميلة من صنع ريشته الخاصة، فتأتي قطعاً أثرية جميلة في هيئات حديثة لا تفقدها جمالياتها، لكنها تقربها من ذهن القارئ المعاصر.
لم يترك حسن، ومن خلال الأمثلة الحية التي طرحها، سواء في استشهاداته المقارنة، بين قمم الرواية العربية القدماء من أمثال توفيق الحكيم، وطه حسين، ونجيب محفوظ، وبين «كتبة اليوم» ممن يدعون ممارسة تأليف الروايات العربية، الحاضرين في القاعة أمام خيارات هلامية، بل صدمهم وبشكل تدريجي غير مفاجئ، بحقيقة أن الرواية العربية تعيش اليوم «إحدى مراحل انحطاطها»، يعبر عن ذلك الكم الهائل الذي تقذف به المطابع ودور النشر على حد سواء في الأسواق، غير مكترثة بالتمييز بين «الغث» و»السمين».
وما هو أسوأ من ذلك، من وجهة نظر الأخ حسن، ذلك التلقف غير «المفهوم» أو حتى «المبرر» من لدن القارئ العربي، الذي جعل أحد المؤلفات التي يصعب تصنيفها في فئة الأعمال الأدبية، يعاد طبعه 17 مرة في ما لا يزيد على سنوات تعد على أصابع اليد الواحدة، مقارنة مع تلك الأعمال العظيمة التي لم تكن تحظى بإعادة الطباعة قبل مضي عدة سنوات على نسختها الأولى.
عرج حسن بحضوره في دهاليز الرواية العربية من المشرق العربي إلى مغربه، محذراً، وبنبرة تغشوها مسحة من الحزن والألم، إلى تشظي الأدب العربي، تحت مبررات وأوهام «وطنيته السياسية»، والأسوأ من ذلك، كما يعتقد حسن، هو انعكاس ذلك على القارئ العربي الذي هو الآخر بقي محصوراً، وبقرار ذاتي، في نطاق جدران أدبه المحلي الضيق، بعد أن كان جيل حسن ينطلق مستمتعاً برحابة وسعة آفاق الأدب العربي الشامل المتمرد على الحدود السياسية، والمتجاوز للتقسيمات الوطنية.
ما أسر به وليد لي بشأن منهج حسن «الحفري» في كتاباته الأدبية لم يكن غائباً عن مدخل حسن في محاضرته، إذ يشعر من تابعه في تلك الليلة، حرصه على انتقاء مفرداته بشكل حذر، وتمسكه بالدخول في تفاصيل مكونات محاضرته، لدرجة قد تبدو مملة في مظهرها الخارجي، لكنها ضرورية لمن يريد أن يصل إلى كبد الحقيقة، البعيدة عن أية رتوش، أو إغراق في وصف شكل النص، وتحاشي الغوص في جوهر المعنى.
هذه الحالة «الداوودية»، تشخصها الناقدة الأدبية في صحيفة «السفير» اللبنانية مها الحسن، في عرضها لرواية «مئة وثمانون غروباً»، حيث نجدها تقول «ليس من السهل ولوج عالم حسن داوود الروائي، مع أنه ليس صعباً، ثمة نوع من السهل الممتنع، أو الصعب المتاح، حيث استغرقت في قراءة هذه الرواية ستة أسابيع، وأنا أعتبر نفسي قارئة جيدة، معتادة على قراءات صعبة من عوالم أحبها لديستوفسكي أو كافكا أو فوكنر، أو غيرهم، شخصياً، قرأت الصفحات الأولى من الرواية لأكثر من خمس مرات... كنت أحاول في كل مرة فتح نافذة تواطؤ مع الروائي لأدخل عوالمه، فأجد أحدنا عاجزاً عن لعب دوره، إما أنا كقارئة مستعجلة، أو هو كروائي يتفنن بالبطء... (لكنها تستدرك عندما تكتشف أسلوب داوود فتقول) في القسم الثاني من الرواية، تأتي المكافأة، التي يقدمها حسن داوود لقارئه المجتهد، المخلص، عبر سلمى، ثم ترتفع درجة المكافأة عبر تيسير، الديستويفسكيّ الرائع. إذ يصعب علينا ألا نحب تيسير، ويصعب أن نمحوه من ذاكرتنا».
بقيت قضية مهمة، أثارها وجود حسن بيننا في مركز الشيخ محمد الثقافي، وهي العلاقة بين رواية علاء الأسواني «عمارة يعقوبيان» ورواية حسن داوود «بناية ماتيلد»، التي كما يقول غلافها «تشكل المرتكز المكاني الذي تدور فيه ومن حوله الحوادث تشبه إلى حد ما، ساحة للحرب. وسواء داخل البناية، وخصوصاً داخل الشقّة التي يسكنها الراوي مع أهله، أو في الأحياء المجاورة فإن العلاقات ما تنفك تصاب بالتفسّخ والترهّل، كما أن الوجوه الكثيرة تروح تختفي وتتضاءل فكأن شظايا الحرب تصيبها وتأخذ بتلابيب الأرواح فتخفيها». وهي الرواية التي كما يرى شوقي رافع «تتألق البناية المذكورة مع تألق البورجوازية اللبنانية الصاعدة في الخمسينيات ثم تؤول مع الزمن إلى ذبول محقق يطيح بالبناية وصاحبتها ويجعلها مسرحاً لجريمة إبراهيم طراف، ابن ماتيلد، التي تنتهي به إلى حبل المشنقة».
المكان، أو العمارة هي محور الروايتين، مع الفارق الزمني الكبير بينهما، فبينما صدرت الأولى في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، قرأنا الثانية في مطلع القرن الواحد والعشرين، وبينما جاءت أحداث الأولى في شكل منمنات زمنية ومكانية حفرتها ريشة حسن بتأنٍ ووتيرة بطيئة مطلوبين، زخرت الثانية بالكثير من الحوادث المثيرة التي أمدتها بالقدرة على الانتشار السريع والواسع.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 3050 - الثلثاء 11 يناير 2011م الموافق 06 صفر 1432هـ
شكرا
شكرا على المقال الرائع