إذا كان ثمة مظهر ناطق لهما، فهو حق الدفاع، الذي هو بمثابة الصدى لصوت العدل، وهو غاية الغايات للإنسان منذ كان، وسيبقى حلم حياته، وأمل مفكريه، وجوهر شرائعه السماوية منها والوضعية، وسياج أمنه ورائد ركبه، يحدو بأجيال وأجيال تتأبى على الحصر، من أجل غد مشرق للإنسانية جمعاء.
ولئن كانت التشريعات الموضوعية هي موطن العدل، فإن التشريعات الإجرائية هي السبيل إليه، والتي ينبغي أن تكون مطية ذلولاً لعدل سهل لمن يبتغيه، دون تعلل بالشكل وتمحل فيه، أو لدد في الخصومة قصداً للكيد والمطل ليس إلا؛ لقول النبي الأكرم (ص): لن تقدس أمة لا يأخذ فيها الضعيف حقه، غير متعتع.
ذلك أن حق الدفاع في سهولة ويسر ليس حقاً للمتهم وحده فحسب، بل هو شرط جوهري لانتظام وصحة الدعوى الجنائية.
وسنسلط الضوء على هذا الحق الضارب في القدم بمناسبة ما ثار من لغط حول صحة تمثيل الهيئة الدفاعية التي انتدبت بقرار وزاري للدفاع عن المتهمين الذين سماهم الإعلام بـ «الشبكة الإرهابية»؛ بقصد الرد على من قال من المحامين إنه يتمسك بالدفاع عمن انتدب بالدفاع عنه من المتهمين رغم رفض ذلك المتهم لحضور ذاك المحامي عنه أو معه!، وذلك من خلال المرور على تنظيم هذا الحق في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ثم الدستور المصري لسنة 1923م بوصفه مرجع الدساتير العربية، ثم الدستور البحريني وميثاق العمل الوطني.
ما إن أطفأ الله نائرة الحرب العالمية الثانية ووضعت أوزارها، حتى هبت الشعوب المطحونة التي اكتوت بلهيب تلك الحرب، إلى وضع ميثاق الأمم المتحدة الذي يهدف إلى توثيق التعاون الدولي لحماية حقوق الإنسان دون تفرقة بسبب اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين، وانبثق عن ذلك أن أقرت الجمعية العامة لحقوق للأمم المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول1949، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي، وإن لم يتضمن النص على حق المتهم في الاستعانة بمن يدافع عنه، إلا أن مادته الحادية عشرة قررت أن كل شخص متهم يعتبر بريئاً حتى تثبت إدانته قانوناً بمحاكمة تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه.
وقد انتقل هذا التنظيم إلى معظم دساتير العالم المختلفة، إن لم يكن لها كلها.
سجل الدستور المصري للعام 1923 مبادئ حق الدفاع وبين مظاهره، إذ قرر ألا جريمة ولا عقوبة الا بناء على قانون، وهو ما يعرف بمبدأ المشروعية، وألا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لنفاذ ذلك القانون، وهو ما يعرف بمبدأ عدم الرجعية، وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها جميع ضمانات الدفاع عن نفسه، وأن حق اللجوء للقضاء مكفـول للكـافة، ولا يجوز تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقـابة القضاء.
كما ورد بقانون الإجراءات الجنائية المصري تنظيم لأحكام الاستعانة بمحامٍ في مواضع مختلفة، دون وجود حكم عام في الموضوع، وإن كان ذلك التشريع قد أغفل النص إلا على استعانة المتهم بمحامٍ فيما يتعلق بالجناية دون معالجة الأمر بالنسبة للجنح والمخالفات، وعلى ذلك نهج القضاء المصري حتى قمة هرمه، وهي محكمة النقض - قبلة القضاء في الوطن العربي - التي تقول «إن الأصل أن حضور محامٍ عن المتهم ليس بلازم في مواد الجنح». ثم جاء دستور 1971 ليسد هذا النقص في التشريع حينما قرر أن حق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة، يكفله القانون، إلا أنه صمت عن بيان مدى هذا الحق. وأمام التراكم السابق للمفاهيم التي أرستها أحكام القضاء، يغدو ما قام به دستور 1971 سداً نظرياً للفراغ التشريعي ليس إلا.
لما كان الدستور المصري يعد أصلاً تاريخياً للدستور البحريني والذي تولى صياغته فقهاء مصريون، فقد نهج على منوال الدستور المصري فيما قرره بهذا الشأن، فقضى في مادته العشرين على أنه: لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة للعمل بالقانون الذي ينص عليها.
وإن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة وفقا للقانون، وأنه يجب أن يكون لكل متهم في جناية محامٍ يدافع عنه بموافقته، وأن حق التقاضي مكفول للجميع وأكد ذلك ما ورد في ميثاق العمل الوطني في الفقرة الخامسة من البند «ثانياً» من الفصل الأول. وقد وردت عبارة المتهم ووكيله في عدد من مواد قانون الإجراءات الجنائية كما في المادة 84 وكذلك المادة 134 التي توجب دعوة محامي المتهم لحضور التحقيق معه في جناية.
ينبغي لإيضاح طبيعة الاستعانة بمحامٍ، بحث ماهيتها القانونية، لبيان ما إذا كانت حرية أم حقاً، وهل أنها من الحقوق الأساسية للإنسان أم لا.
الحق يتضمن رابطة إلزام قانونية بين شخصين يهيئ أحدهما للآخر ُمكنَة استعماله ويكون ملزماً بذلك. أما الحرية فهي ما يستطيع الشخص القيام به دون التزام من أحد بتمكينه من ممارسة حريته، أو هي بعبارة أخرى، مكنة القيام بعمل أو الامتناع عن عمل. فإذا أخذنا بالقول بأن استعانة المتهم بُمحامٍ هو حق، فيستلزم ذلك القول بقيام واجب على الدولة بتمكين المتهم من ممارسة هذا الحق دون معوقات.
إلا أننا إذا نظرنا إلى استعانة المتهم بمحام على أنها حرية، فيترتب على ذلك النظر أن يغدو المتهم حراً في أن يستعين بمحام أو لا يستعين، وينبني على ذلك ألا يقع على كاهل الدولة واجب تمكينه من الاستعانة بمحام، بل إن المتهم حر في ذلك.
وظلت هذه المسألة محل خلاف بين الدساتير، فقد ورد بدستور مصر للعام 1923، حكم فرضت بموجبه المادة التاسعة والعشرون الاستعانة بمحامٍ على سبيل الإلزام في الجنايات، وهو نفس ما قرره الدستور المصري للعام 1971، والدستور البحريني في مادته العشرين، وقبله الدستور الكويتي وليد نفس المصدر.
ولما كان الوصف القانوني لاستعانة المتهم بمحام ينافح عنه على أنه حق، يستتبع التسليم له بالاختيار بين مباشرته أو تركه، بل والتنازل عنه؛ لأن المرء لا يجبر على ممارسة حقه، وإلا انقلب إلى زجر له، مما ينفي عنه وصف الحق. على أنه يجب عدم الخلط بين حق المتهم في الاستعانة بمحام، وبين حقه في التنازل عن الاستعانة بذلك المحامي؛ إذ إن حقه الأول مرتبط بحق آخر هو حق الجماعة في أن تكفل لأحد أفرادها محاكمة عادلة، بوصف أن العدل من مقومات كيان تلك الجماعة، فلا يجوز للفرد المساس بذلك المقوم والركن، بأن يتخلى عن حق المجتمع بإرادته هو المنفردة، ولكن هذا الحق لا ينفي حق المتهم في أن يستخدم حريته في اختيار المدافع، أو المدافعين عنه، وفقاً لما يراه؛ بوصف أن ذلك من إطلاقاته، كما هو المقرر دستورياً. وتأسيساً على ما تقدم ننتهي إلى القول بشكل جازم بأن الوصف القانوني لاستعانة المتهم بمحاميه إنما هو حق بالمعنى الفني الدقيق لهذا المصطلح، وهو ليس حقاً له وحده، بل له باعتباره أحد أفراد الجماعة التي تخضع للقانون في جميع جنبات حياتها، ومن ثم فليست هي رخصة للمتهم يمكنه مباشرتها أو التخلي عنها متى شاء، لكنه إذا مارس هذا الحق أو أفصح عن عزمه في ذلك فله أن يختار المدافع عنه، فإن لم يقع منه ذلك الاختيار، وأختار له المجتمع مدافعاً عنه، فلا مندوحة من ضرورة أن يقبل أو يرتضي المتهم المدافع الذي اختاره المجتمع له، وإلا انتفت الضمانة وأفرغت من محتواها، وانقلبت إلى شكل خاوٍ من أي معنى.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الشملاوي"العدد 3044 - الأربعاء 05 يناير 2011م الموافق 30 محرم 1432هـ
الأخ العزيز أ.عبدالله الشملاوي .... المحترم.
أنت محامي بمتياز واتضح لي ذلك عندما التقيت بك في جمهورية مصر العربية قبل 24 عاما عندما كنت طالبا في القاهرة وشرفتنا بزيارتك مع المحامي عبدالشهيد خلف. واعتقد بأن مهنة المحاماة في البحرين قد اكتملت بك يا
بارك فيك وكثر الله من أمثالك وجزاك الله ألف خير يا وجه الخير.
حق الدفاع في سهولة ويسر؟
أين توجد هذه المقولة في عالمنا الذي يضج بشعار التجريم والإدانة قبل الحكم وممارسة الضغوط النفسية والجسدية للمتهمين أثناء التحقيق معهم
فتساق لهم التهم وما عليهم سوى الإعتراف بها
تحت الضغوط والتشديد التي تجهض حمل الحامل
صوتهم مزعج و يثير الحنقة.
ما هي حرية التعبير إذا"؟ كيف يتم إصلاح هذا المجتمع إذا لم تكن هناك أصوات أخرى تقول ما لا نشتهي؟ هنالك مشكلة ما في هذا الوطن الصغير.