لم تكن الأصوات التي تنادي بانفصال جنوب السودان مقتصرة هذه الأيام على الجنوبيين أو أنصارهم من الدول الغربية، وفي مقدمتها أميركا، ولكنها تصدر أيضاً من عدد لا يستهان به من أهل الشمال. فجنوب السودان ظل «شوكة الحوت التي «لا بتنبلع لا بتفوت» لكل الحكومات التي تعاقبت على حكم السودان وتحمل الشمال عبئها تاريخياً واقتصادياً وأخلاقياً نتيجة لإلحاق الجنوب بشمال السودان من قبل المستعمر، إذ لم يكن الجنوب مساهماً في الدخل القومي العام، بل كان خصماً على موارد السودان، حيث استهلك هذا الإقليم الذي يختلف عن بقية الأقاليم في العادات والتقاليد والمعتقدات كثيراً من الموارد وقت السلم أو الحرب.
اتفاقية نيفاشا للسلام التي أنهت عقوداً من الحرب الأهلية، حققت مكاسب خرافية للجنوبيين، فمثلاً القوات المسلحة القومية خرجت كلها من الجنوب وحلت مكانها قوات الحركة الشعبية المتمردة في حين جلبت بعض قوات الحركة الشعبية إلى الشمال بكل أسلحتها، هذا ناهيك عن اقتسام السلطة في الشمال. فالمهمشون من الجنوبيين أصبحوا وزراء ومستشارين بل أصبح النائب الأول للرئيس السوداني منهم. لكنهم لم يقابلوا هذا الإحسان بالإحسان بل قابلوه بالرصاص وبالقتل أثناء تنفيذ اتفاقية السلام لأن متمردي الأمس وحكام اليوم مازالوا مشحونين بحقد الماضي، إذ لم يستطع هؤلاء حتى الآن محو ماضي الحرب الأليم والذاكرة المريرة من أذهانهم وإدراك أن البلاد دخلت مرحلة السلام والعدالة على الرغم أن الاتفاقية أجحفت كثيراً بحق الشمال.
وفي ظل عدم الانسجام والتوافق بين الجنوب والشمال بعد ستة أعوام من الفترة الانتقالية التي ستنتهي بتنظيم استفتاء الجنوب من اجل اختيار الوحدة أو الانفصال، أرى أن «الطلاق» السياسي السلمي بين الجانبين فيه رحمة بحيث ينكب كل طرف على مشاكله الخاصة به ويسعى إلى تحقيق الرفاهية لشعبه.
كثير من وسائل الإعلام الغربية تناولت قضية انفصال الجنوب بطريقة تشاؤمية وأوردت أنها ستخلق عواقب وخيمة وخصوصا للشمال من حيث الوضع الاقتصادي وللجنوب من حيث قدرة الدولة الوليدة المرتقبة على تنظيم شئونها الداخلية وإرساء نظام حكم ديمقراطي شفاف.
ولذلك يرى بعض المراقبين انه ستكون هنالك صراعات جنوبية- جنوبية أثنية دامية بين قبائل الدينكا (أكبر قبائل الجنوب وهي التي ينتمي لها زعيم حركة التمرد جون قرنق والرئيس الحالي لحكومة الجنوب سلفاكير مليارديت) وقبائل الشلك والنوير (الأقرب إلى شمال السودان والتي تقع في مناطقها آبار النفط) والانواك والباريا التي قد ترى أنها مهمشة من قبل الدينكا وبالتالي سيكون لكل مجموعة مليشياتها وستتمرد ضد السلطة في جوبا أو تهاجم بعضها بعضاً وذلك على غرار ما حدث بين قبائل الهوتو والتوتسي في رواندا وبورندي.
وفي الشمال قد تستلهم كثير من الأقاليم والمناطق التجربة في الجنوب وما تحقق له من مكاسب ومن ثم تثور على المركز في الخرطوم. هذا علاوة على خسارة حكومة الخرطوم لكثير من عائدات النفط المقتسمة مع الجنوب وإن كان الشمال منتجاً للنفط أيضا ولكن بكميات أقل.
دولياً بالانفصال يكون الجنوب تحت الهيمنة الأميركية - الإسرائيلية لأن الدولة الوليدة ستكون إفريقية الهوى لا ترى مانعاً من إقامة علاقات وطيدة مع الدولة اليهودية والاستجابة للمطالب الأميركية أياً كانت. ولن يكون السودان الشمالي المتأثر الوحيد بانفصال الجنوب، بل سيكون للحدث تداعياته على الدول المجاورة ؛ وخصوصاً تلك التي لها حدود مشتركة مع السودان وانخرطت، بطريقة ما في النزاع، وهي مصر، إثيوبيا، كينيا، يوغندا، إريتريا وليبيا. هنا نركز على التأثيرات على الدول العربية، إذ لا شك أن مصر هي أكبر الخاسرين من الانفصال، فخسارتها لا تتعلق بمياه النيل فقط، وإن كانت هذه هي الأهم، إنما أيضاً بمصالح أخرى، مثل تقليص مجال أمنها الاستراتيجي جنوباًً. بانفصال جنوب السودان ستضاف دولة جديدة لدول حوض النيل، ليكون عددها إحدى عشرة دولة. وغالباً ما ستنضم الدولة الجديدة للدول الرافضة لاتفاقية 1959 التي اقتسم السودان ومصر بموجبها مياه النيل. وقد وقعت خمس من هذه الدول في مايو/ أيار الماضي على اتفاق إطار تعاوني، من دون وضع اعتبار لرفض دولتي المصب لبعض بنوده، ويفترض أن يدخل الاتفاق حيز النفاذ العام الجاري. وسيزداد وضع ملف المياه تعقيداً بالنسبة لمصر في ما إذا اختلف الجنوب والشمال على اقتسام حصة السودان من المياه وسعت هي للاتفاق مع الجنوب على حساب الشمال، كما يمكن أن يستدل من تقارير ذكرت أن مسئولين جنوبيين وعدوها بالمطالبة بنصيبهم من المياه من الحصة المقررة للسودان حسب اتفاقية 1959. وسيعني انفصال الجنوب إعادة التفاوض حول اتفاق شق قناة جونقلي، الذي سبق لمصر أن أبرمته مع السودان واتفق بموجبه البلدان على اقتسام المياه التي ستوفرها المرحلة الأولى من المشروع والبالغة 4 مليارات متر مكعب مناصفة بينهما. و يتوقع أن تطالب دولة الجنوب بمقابل مالي عن المياه التي ستوفرها القناة، وهو ما دعا إليه الكثير من الكُتاب الجنوبيين. وإذا ما وافقت القاهرة على مبدأ شراء مياه القناة فستكون قد أرست قاعدة ستطالب دول منابع الحوض الأخرى بتطبيقها عليها أيضاً. وفي كل الأحوال سترتكب مصر خطأً استراتيجياً، فيما إذا حاولت معالجة مشكلة المياه مع الجنوب بمعزل عن الشمال، فبإمكان الأخير مثلاً إبرام اتفاقيات مماثلة مع إثيوبيا مما سيلحق بالقاهرة أذى كبيراً.
أما ليبيا التي ظلت تنشط، من دون وجود مصالح وطنية أو أهداف استراتيجية واضحة في صراعات الإقليم، تبدو مرتبكة الآن. فمن جانب دعمت الجماهيرية الحركة الشعبية المتمردة سابقاً لسنوات طويلة عند نشأتها وتنتظر الحصول على مقابل لهذا الدعم، ومن جانب آخر تريد أن تبدو طرابلس حريصة على وحدة السودان. وفي كل الأحوال لا يتوقع أن تستفيد ليبيا شيئاً من انفصال الجنوب إلا إذا كانت لديها طموحات في دارفور أو في مناطق أخرى وتسعى لإضعاف الحكومة المركزية في الخرطوم، أو إذا تطورت قضية دارفور إلى المطالبة بحق تقرير المصير عندها ستتأثر ليبيا بما ينتج من تلك التطورات في الإقليم الغربي. وعموماً سيؤدي انفصال الجنوب السوداني المحتمل إلى تشجيع الحركات الثورية في إفريقيا لتمزيق القارة الإفريقية وهو ما يتعارض ظاهرياً مع توجهات القائد الليبي معمر القذافي.
ومع كل هذه التداعيات السالبة يبدو أن الانفصال فيه بعض الفوائد، فالسودان قطر متناهي الأطراف والتهميش أو انعدام التنمية، يوجد في غالبية أقاليمه، هذا سببه كما أسلفنا حرب الجنوب التي دامت 39 عاماً واستنزفت الموازنات من الحكومة المركزية بينما ظلت موارد الجنوب الوافرة غير مستغلة باستثناء النفط الذي استخدم أخيراً. كما أن جميع الحكومات في المركز سيطرت عليها النخبة الشمالية مما أدى إلى توجيه المشاريع التنموية إلى وجهات معينة. لذلك حينما تتفرغ أي من الدولتين المرتقبتين عقب الاستفتاء، إلى شأنها الخاص مع تقلص مساحة النفوذ، تستطيع كل منهما أن تطور أولاً الموارد البشرية لديها عبر توفير التعليم النوعي وعبر الحكم الراشد(الصالح) إن أرادت. فالشمال ليس فقيراً كما يبدو للبعض إذا انفصل الجنوب، فغالبية المشاريع الزراعية الكبرى توجد في الشمال وكذلك الثروة الحيوانية الضخمة في إقليمي كردفان ودارفور بالإضافة إلى الذهب في الشمال والشرق والنحاس بجنوب دارفور.
وبالعودة إلى تأثيرات النفط على شطري السودان، فقد صرح مسئولون أن شمال السودان يمكنه زيادة إنتاجه من النفط إلى نحو 200 ألف برميل يومياً خلال ثلاثة إلى خمسة أعوام. والآن يبلغ إنتاج النفط في الشمال نحو 100 ألف إلى 110 آلاف برميل يومياً، هذا من المجموع الكلي للإنتاج ( بما فيه آبار الجنوب) البالغ نحو 500 ألف برميل يومياً. وبما أن عائدات النفط تشكل أكثر من 90 في المئة من إيرادات السودان بالعملة الأجنبية و45 في المئة من الموازنة بكاملها، فقد بدأت حكومة الشمال في البحث عن بدائل لتنويع مصادر الدخل لتتجنب مخاطر النقص في العائدات من النقد الأجنبي جراء انخفاض صادرات النفط. ومن أهم هذه البدائل الذهب الذي بدأ التنقيب عنه في مناطق عديدة كبديل للنفط وهو معدن واعد في الشمال .
وفي حال انفصال الإقليم الجنوبي على الشمال أن يطور القطاع الزراعي والصناعي طالما لديه من الوقود ما يكفيه لتشغيل الطلمبات (المضخات) والجرارات الزراعية في المشاريع المروية الكبرى مثل مشروع الجزيرة في وسط السودان الذي يعمل به 2500 موظف و6461 عاملاً لتحقيق الاكتفاء الذاتي والتصدير من الحبوب. وهناك مشروعات صناعية مثل مصانع الأسمنت التي ستحقق اكتفاء للشمال وسيبدأ التصدير فيها العام الجاري بكميات تصل خمسة ملايين طن. وسيحقق الشمال الاكتفاء الذاتي من السكر نهاية العام الجاري بدخول مصنع سكر النيل الأبيض بجانب إنتاج الإيثانول. ومن المتوقع أن يشهد السودان الشمالي طفرة استثمارية في حال مرت مرحلة الاستفتاء بسلام من دون أي اضطرابات.
أما دولة جنوب السودان فيمكنها الاستفادة من عائدات النفط الضخمة في تطوير البنية التحتية التي تكاد تكون معدومة في هذا الإقليم. لكن كل ما يتطلبه الإقليم في المرحلة المقبلة الاستقرار السياسي واستقرار أسعار النفط وعدم زج الدولة الحديثة في صراع مع الشمال أو أي جهات داخلية أو خارجية. فأي مجازفة للجنوب وخوض حرب مع الشمال يمكن أن تؤدي إلى سقوط حكومة جوبا التي تعتمد على عائدات النفط بنسبة 98 في المئة في موازنتها ذلك لأن غالبية آبار النفط الجنوبية أقرب إلى الشمال منها إلى العاصمة جوبا وهي(آبار النفط) تقع أيضاً في منطقة تكثر فيها المليشيات المسلحة الشمالية والجنوبية على حد سواء.
إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"العدد 3043 - الثلثاء 04 يناير 2011م الموافق 29 محرم 1432هـ
مخطط
الشرق الاوسط الجديد