العدد 3041 - الأحد 02 يناير 2011م الموافق 27 محرم 1432هـ

حصاد الهشيم في اتفاقية السلام السودانية

عزوز مقدم Azzooz.Muqaddam [at] alwasatnews.com

مع بلوغ الفترة الانتقالية التي نصت عليها اتفاقية السلام السودانية وهي ست سنوات إلى نهاياتها وصلت البلاد إلى منعطف خطير في مسارها جراء ما صاحب تنفيذ الاتفاقية من أخطاء تتعارض تماماً مع جوهر العملية والمقاصد التي وقعت من أجلها.

لقد جاء توقيع الاتفاقية وسط زخم إعلامي كبير وحضور وتدخل دولي لم يشهد له تاريخ السودان مثيلا، بهدف ضمان تنفيذ الاتفاقية والوصول إلى سودان موحد، ولكن جاءت حصيلة التنفيذ بما لا تشتهيه سفن الشعب السوداني وضامني الاتفاقية.

كانت الاتفاقية مشهودة دوليا من ممثلي كينيا ويوغندا ومصر وايطاليا وهولندا والنرويج والمملكة المتحدة وايرلندا الشمالية وأميركا والاتحاد الإفريقي ومنتدى شركاء منظمة «الإيقاد» الإفريقية، والجامعة العربية والأمم المتحدة.

وكان جوهر الاتفاقية، الذي بنت عليه الجماهير السودانية الآمال العراض، يتلخص في ثلاثة بنود، الأول: تغليب خيار الوحدة على أساس العدالة ورد مظالم شعب جنوب السودان، وتخطيط وتنفيذ الاتفاقية بجعل وحدة السودان خيارا جذابا وبصفة خاصة لشعب جنوب السودان، وكفلت الاتفاقية حق تقرير المصير لشعب الجنوب عن طريق استفتاء لتحديد وضعهم مستقبلا.

البند الثاني والمهم في الاتفاقية، كما جاء في (بروتوكول مشاكوس التمهيدي) في كينيا، هو التحول الديمقراطي وقيام نظام ديمقراطي يأخذ في الحسبان التنوع الثقافي والعرقي والديني والجنسي واللغة والمساواة بين الجنسين لدى شعب الجنوب، وكفلت الاتفاقية الحقوق والحريات الأساسية في جميع أنحاء البلاد، وأكدت أن يكون جهاز الأمن القومي جهازا مهنيا ويكون التفويض المخول له هو تقديم النصح والتركيز على جمع المعلومات وتحليلها، وتم تضمين وثيقة الحقوق في الدستور الانتقالي لسنة 2005م، على أن يتوج ذلك بانتخابات حرة نزيهة تحت إشراف مفوضية للانتخابات مستقلة ومحايدة، واستفتاء على تقرير المصير في نهاية الفترة الانتقالية يدعم ويعزز خيار الوحدة.

البند الثالث كما جاء في بروتوكول مشاكوس: إيجاد حل شامل يعالج التدهور الاقتصادي والاجتماعي في السودان، ويستبدل الحرب ليس بمجرد السلام، بل أيضا بالعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحترم الحقوق الإنسانية والسياسية الأساسية لجميع الشعب السوداني.

كانت تلك البنود الثلاثة هي الحد الأدنى الذي بني عليه الشعب السوداني تأييده للاتفاقية التي أوقفت نزيف الحرب التي استغرقت على فترات متعاقبة نحو 39 عاماً، رغم عيوب الاتفاقية التي لا تخطئها العين، حيث إنها كانت ثنائية وتم استبعاد ممثلي القوى السياسية التاريخية ومنظمات المجتمع المدني من هندستها، ولاسيما أن الاتفاقية تناولت قضية أساسية تتعلق بمصير السودان ووحدته لا يمكن أن تترك لحزبين، المؤتمر الوطني (حزب الرئيس عمر البشير) الذي لا يمثل جميع أهل الشمال ولا الحركة الشعبية المتمردة سابقا تمثل كل أهل الجنوب.

كانت نتيجة هذه العملية السلمية شراكة متشاكسة بين هذين الحزبين كرّست الشمولية في الشمال والدكتاتورية في الجنوب، إضافة للثغرات الأخرى في الاتفاقية مثل تقسيم البلاد على أساس ديني، واقتسام السلطة الذي كرّس الصراع بين شريكي الحكم إذ هيمن المؤتمر الوطني على الحكومة المركزية والمجلس الوطني (البرلمان) من خلال الغالبية الميكانيكية والتي افرغ بها الاتفاقية من مضمونها وتم إعادة إنتاج الشمولية بينما أقصت الحركة الشعبية المتمردة سابقا الأحزاب الجنوبية الأخرى من إدارة شئون الإقليم الجنوبي. وأثبتت التجربة العملية فشل النظامين المصرفيين (الإسلامي في الشمال والتقليدي في الجنوب) اللذان نصت عليهما اتفاقية السلام. علاوة على ذلك ظهر خلل في توزيع عائدات النفط بين الشمال والجنوب والمناطق المنتجة إذ لم تذهب عائداته تلك إلى التنمية وخدمات التعليم والصحة والزراعة والصناعة والبنيات الأساسية... الخ

وبجرد الحصاد لسنوات الفترة الانتقالية من تنفيذ اتفاقية السلام يلاحظ المراقبون للشأن السوداني انتهاكاً لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، حيث أصبح الدستور الانتقالي حبراً على ورق واستمرت الممارسات السابقة سواء في قمع المسيرات السلمية في الشمال أو قتل الداعين إلى الوحدة في الجنوب. وحدث قصور في توفير مقومات استفتاء حر ونزيه في الجنوب ومنطقة أبيي أو إجراء مشورة شعبية خالصة في الأقاليم المنصوص عليها أنها مناطق مهمشة في اتفاقية السلام. وتدهورت مع ذلك الأوضاع المعيشية للشعب السوداني، كما يتضح من غلاء الأسعار وانخفاض الأجور وموجة الإضرابات الكثيرة للعاملين من اجل صرف استحقاقاتهم، إضافة إلى تفشي الفساد الإداري الذي وصل إلى قمته كما يتضح من تقارير المراجع العام وتقارير منظمة الشفافية العالمية، وبيع مؤسسات القطاع العام وتشريد الآلاف من العاملين، وخصخصة بعض المؤسسات الخدمية مثل هيئة الكهرباء والماء. كل ذلك أدى إلى ارتفاع نسبة العطالة وسط الخريجين التي بلغت حوالي 70 %. وقاد التذبذب في السياسات الحكومية الاقتصادية إلى الاعتماد على عائدات النفط المتذبذبة هي الأخرى جراء عدم الاستقرار في أسعار النفط، وأهملت الحكومة المركزية القطاع الزراعي الذي هو أساس الاقتصاد السوداني. لذا لم يشعر المواطنون في الشمال والجنوب بأن الاتفاقية حسّنت من أحوالهم المعيشية.

لكن أسوأ ما أسفرت عنه اتفاقية السلام سياسيا هو النزاع على منطقة أبيي المتاخمة لحدود الجنوب والغنية بالنفط. هذه المنطقة لم تكن في يوم ما تابعة إلى الجنوب بدليل أن الحدود التي وضعها المستعمر الانجليزي قبل وعند استقلال السودان 1956 تقع جنوب مدينة أبيي بعشرات الأميال. ويوجد رافد النيل الأبيض المسمى بحر العرب جنوب المنطقة مما يثبت أن قبيلة المسيرية العربية استوطنت هذه المنطقة منذ العام 1770م (كتاب المؤرخ البريطاني أيان كنيسون، عرب البقارة ، 1965) بعكس قبيلة دينكا نقوك الزنجية التي نزحت من الجنوب إلى المنطقة في العام 1905. وأدى جهل النخبة السياسية الشمالية بشأن المنطقة إلى زيادة أطماع متمردي الجنوب السابقين (حكام الجنوب اليوم) فيها وبالتالي التفاوض عليها في محادثات السلام ومن ثم تخصيص بروتوكول خاص بها يعطي الأولوية في إدارتها إلى أفراد القبيلة الزنجية النازحة ويهمش أهلها الأصليين وربما يفقدها هؤلاء الأخيرين الأمر الذي سيقود إلى اندلاع حرب جديدة بين دولة الشمال ودولة الجنوب (المتوقع ولادتها في الأيام القليلة المقبلة) لن يتوقف أوارها أبدا.

ومن مساوئ اتفاقية السلام في السودان استلهام أهل دارفور للمكتسبات التي حصل عليها الجنوبيون وحصولهم على الاستقلال المحتمل عن الوطن الأم، فنشأت حركات مسلحة لا تحصى ولا تعد في الإقليم الغربي، والآن تحاول حكومة الجنوب استضافة تلك الحركات الدارفورية المسلحة لاتخاذها وسيلة ضغط ضد حكومة الشمال.

إن انفصال الجنوب السوداني جراء التساهل في منح الجنوبيين حقوقا أكثر مما كانوا يحلمون بها ستكون له نتائج كارثية ليس على وحدة بقية مناطق السودان بل على وحدة دول القارة الإفريقية وسيؤثر سلبا على الأمن القومي العربي عبر وضع المخاطر على تدفق مياه النيل وإضعاف الجامعة العربية.

إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"

العدد 3041 - الأحد 02 يناير 2011م الموافق 27 محرم 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً