قرأت هذا المقطع من قصيدة شعرية تقول أبياتها في معنى الحرية:
أخبرنا أستاذي يوماً عن شيء يدعى الحرية
فسألت الأستاذ بلطف أن يتكلم بالعربية
ما هذا اللفظ وما تعني وأية شيء حرية
هل هي مصطلح يوناني عن بعض الحقب الزمنية
أم أشياء نستوردها أو مصنوعات وطنية
فأجاب معلمنا حزناً وانساب الدمع بعفوية
قد أنسوكم كل التاريخ وكل القيم العلّوية
أسفي أن تخرج أجيال لا تفهم معنى الحرية
نعم أحبتي الحرية واتخاذ القرار بحرية، أين أنتم منه؟
إن أهل العلم الحديث يقولون: إن عملية اتخاذ القرار هي «إصدار حكم معين عما يجب أن يفعله الفرد في موقف ما، وذلك بعد الفحص الدقيق للبدائل المختلفة التي يمكن اتباعها، أو هو لحظة اختيار بديل معين بعد تقييم بدائل مختلفة وفقاً لتوقعات معينة لمتخذ القرار».
ويضيف العلم الحديث إضافة مهمة في هذا الصدد حين يقر بأن القرار الخاطئ له كلفة كبيرة لا يمكن تعويضها.
ولكن شخصيتنا اليوم وهو الحر بن يزيد الرياحي، قد سطر – من دون أن يقرأ سطراً في العلم الحديث - أهم وأروع الأمثلة في صحة اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، لأنه بدأ بالركون إلى النفس اللوامة واستخدمها في محاسبة نفسه على ما اتخذه من قرار سابق خاطئ بأن يكون ضد ركب الحسين حين جعجع به طوال الطريق من منطقة «ذات حسم» إلى كربلاء.
وإن كان الحر قد أُجبر على القرار الأول باعتباره قائداً عسكرياً فذاً ومن أشجع رجال الكوفة ولأنه كان يعمل ضمن المنظومة العسكرية للجيش الأموي، أي جيش الدولة.
ولأن كربلاء حقاً مدرسة الأجيال تفيض بالعطاء وتزخر بالدروس والعبر وتتجلى فيها أروع المواقف الإنسانية على مدى التاريخ لم تكن واقعة عاشوراء مجرد معركة بين فئتين محددة بزمان ومكان معينين بل هي مدرسة متجددة في كل زمان ومكان بما قدمته من نماذج إنسانية وفكرية وفلسفية. ومن هذه النماذج الرائعة الحر بن يزيد الرياحي الذي جسد أروع نموذج للضمير الإنساني الحي والإرادة الحرة الواعية بانتقاله من خندق الظلام إلى ساحة النور وخروجه من حياة العبودية إلى طريق الأحرار، فأصبح رمزاً من الرموز الإنسانية الخالدة ومثالاً يحتذى به في سلوك الإنسان وتمسكه بالقيم العليا والمبادئ المثلى.
وبعصي التقريع من النفس اللوامة ذاتها طوال فترة حصار معسكر الحسين (ع) في أرض كربلاء، استطاع الحر أن يغير من قراره الخاطئ سريعاً قبل الفاجعة الكبرى كي لا يخسر وتصبح كلفة الرجوع عن قراره غير المناسب كبيرة جداً أو لا يمكن أن تسدد فاتورتها فيما بعد. أي أن يشارك في قتل الحسين وأهل بيته وأصحابه فيتبوأ مقعده من النار.
ولو كان الذين في معسكر عمر بن سعد قد استوعبوا ما قرأوه من كتاب الله جيداً فهماً وتطبيقاً لما غفلوا وهم يقفون ضد الحسين في كربلاء عن الآية الشريفة «وقفوهم إنهم مسئولون» (الصافات: 24)، التي توضح معنى الحرية في الاختيار الإلهي الذي تركه لبني البشر. فالإنسان وفق الرؤية القرآنية ومنطق العقل الإسلامي، يجب أن يكون حراً، ليكون مسئولاً، وليجري عالم الإنسان وفق عدل الله تعالى، فلا مسئولية بلا حرية. وهكذا تتلازم الحرية والمسئولية في العقيدة الإسلامية، وفي الفكر الإسلامي. وهكذا تكون قيمه الإنسان في كونه حراً مسئولاً.
إن محنة الشعوب الأولى اليوم هي مصادرة حرية الإنسان، وهذا ما وعاه الحر في يوم كربلاء وهذا ما قصده الحسين (ع) من ذكر قيمة الحرية في الدنيا عند مصرع الحر رضوان الله عليه.
لقد حدث أمران للحر في مسيره مع الحسين (ع) منذ التقاه في «ذات حسم» ربما فتح الطريق لإعادة تفكيره وتغيير قراره الخاطئ، وهما صلاته وراء الإمام الحسين وتأثره بتلك الصلاة الإسلامية الأصيلة، وتورعه عن ذكر أم الحسين (ع) فاطمة الزهراء (ع) عند الحديث المشهور الذي دار بين الحسين والحر. هذه كانت من ألطاف الله التي رسمت طريقاً لحرية التفكير لدى الحر الرياحي في الهدف الذي من أجله يحارب عترة رسول الله وهو يعلم من هم بدليل قوله للحسين: فلعل الله يرزقني العافية ولا يبتليني بشيء من أمرك، أي قتلك أو التسبب في ذلك؟ ولهذا فكر طويلاً في أرض كربلاء واتخذ القرار الصائب في اللحظة المناسبة؟ ولهذا أطلق الحسين (ع) عند مصرعه كلماته النورانية الرائعة في تأملها ملياً: «أنت كما سمتك أمك... حر في الدنيا وسعيد في الآخرة».
فهل أنتم أحبتي فاعلون ما فعل الحر في قراره لتكونوا أحراراً في دنياكم وسعداء في آخرتكم؟
أتمنى ذلك كما أتمنى السلامة لكم ولي في طريق الحق.
العدد 3023 - الأربعاء 15 ديسمبر 2010م الموافق 09 محرم 1432هـ