مضى أكثر من شهر على توقف جلسات مجلس الوزراء اللبناني بسبب الخلاف بين قوى 8 و14 آذار على ملف «شهود الزور». الفريق الأول يريد إحالة الملف إلى «المجلس العدلي» والثاني يريد نقله إلى القضاء العادي لاستكمال التحقيق بشأنه. وعند هذه النقطة تعطلت أعمال الحكومة وتوقفت من دون أن ينجح رئيس الجمهورية في إيجاد مخرج آمن للمسألة.
ملف «شهود الزور» ليس الوحيد المسئول عن تعطيل مؤسسات «جمهورية الطوائف» وإنما هناك مجموعة خلافات على الكثير من النقاط العالقة. وكل نقطة تبدأ حامية ثم تتراجع سخونتها إلى درجة البرودة وتوضع في درج الإهمال ليبدأ السجال الساخن بشأن نقطة جديدة يتم الاختلاف عليها ولا ينتهي إلى حل. وهكذا.
تضارب الملفات وتعددها لا يقتصر تأثيره السلبي على تعطيل المؤسسات وإنما يؤدي إلى خلط أوراق الأولويات وإضاعة الفرص وترك الساحة اللبنانية مكشوفة للتهديدات الإسرائيلية ومفتوحة للتدخلات الإقليمية والدولية. وهذا التتابع في فتح الملفات والانتقال من مشكلة إلى أخرى من دون حل أو تفاهم على مسألة خلافية يرفع دائماً درجة الحرارة ويوتر الأجواء ويشحن الطوائف والمذاهب بجرعة زائدة من الكراهية ويستنفر العصبيات ويضع قواها في دائرة خطر الاقتتال الأهلي.
غياب بوصلة الأولويات في مشروع «جمهورية الطوائف» يلعب دوره في منع نهوض دولة قوية وعادلة وقادرة على ضبط التوازن في إطار هيكلية دستورية واضحة في خطتها وخطواتها. فالعهد مثلاً بدأ نشاطه في إعلان العزم على تأسيس طاولة حوار تكون مهمتها الأولى وضع تصور وطني مشترك بشأن «استراتيجية الدفاع». وقبل أن يتوصل فرقاء الحوار إلى صيغة دفاعية فُتح فجأة ملف «شبكات التجسس» وأصبح هو مدار النقاش بوصفه يمثل أولوية تسبق موضوع الدفاع الوطني. وأخذ ملف «التجسس» نصيبه الوافر من الجدل العنيف والتخوين وتراشق الاتهامات إلى أن توقف فجأة بعد اعتقال أحد قادة «التيار الوطني الحر» ومساعد الجنرال ميشال عون بتهمة التعامل مع العدو. فجأة ظهر ملف «شهود الزور» وأخذ يتصاعد بسرعة إلى أن احتل الموقع الأول وقبل استراتيجية الدفاع وأوراق الخونة والعملاء وشبكة الاختراق لخطوط الاتصالات. وهكذا.
الملفات اللبنانية تشبه لعبة الروليت وهي أقرب إلى الشكل الدائري هندسياً وتعتمد على الحظ لا المهارة وتراهن على الأمزجة اليومية وتتلاعب بعواطف الجمهور. فاللعبة انتقائية واستنسابية وتدور على نفسها مستخدمة الطابة للتنقل بين رقم وآخر من دون اهتمام بجدول الأولويات.
هل الأولوية للدفاع وتلك الخطة الاستراتيجية لوقف أو منع التهديدات الإسرائيلية من التطاول والتلاعب باستقرار هذا البلد الصغير؟ هل الأولوية للتحرير وبناء مؤسسة قادرة على حماية قرى الجنوب من عدوان محتمل وضمان أمن الشريط الحدودي من الاختراق؟ هل الأولوية للتجسس وملاحقة خيوط الشبكة التي نجحت في الدخول إلى أجهزة وهواتف ومنازل قادة من قوى 8 آذار؟ هل الأولوية للمحكمة الدولية ومتابعة ملف العدالة والتعرف على هوية القتلة وكشف القوى الفاعلة والمنفذة والمستفيدة من تلك الجرائم السياسية التي عصفت ببلاد الأرز منذ العام 2004 إلى 2008؟ هل الأولوية للبيان ألاتهامي (القرار الظني) المتوقع صدوره بشأن جريمة اغتيال رفيق الحريري واستدراك عواقبه ومضاعفاته قبل فوات الأوان؟ هل الأولوية لملف «شهود الزور» وما يستتبع من إحالات قضائية قد تكشف بعض الجوانب الخفية من خيوط اللعبة؟ هل الأولوية للكهرباء للطاقة للحرائق التي تأكل الأخضر واليابس؟ هل وهل.
الآن طرأ عامل إضافي على لعبة الروليت اللبنانية وهي ظهور وثائق موقع «ويكيليكس» على المسرح العبثي. فالموقع أصبح «ماركة» مسجلة أخذ مكانه المريح في حفلة الشتم والاتهامات المتبادلة بعد أن صدر أكثر من 3860 ورقة تنقل سلسلة دردشات ومعلومات القال والقيل وحكايات المقاهي وردهات الفنادق والمطاعم جمعها وسجلها الطاقم الدبلوماسي الأميركي وأرسلها إلى وزارة الخارجية في واشنطن لتشكل معلومات ومستندات ترشد الاستراتيجية الأميركية وتوجه سياستها الغبية أحياناً والفاشلة أحياناً أخرى.
«ويكيليكس» أخذ الآن يحتل سلم أولويات بعض الاتجاهات بوصفه يشكل أدلة دامغة أو وثائق لا يرقى لها الشك بصحتها وصدقيتها. وباتت الأطراف تستخدم الأوراق ضد بعضها بمزاجية وانتقائية واستنسابية حتى تسجل النقاط في مرمى الملعب وزواياه من دون اعتبار لمنطق الأولوية الذي يفترض من القوى العاقلة أن تنتبه لأهمية تدرج المخاطر.
سياسة التلاعب بالأولويات والانتقال من ملف إلى آخر والتضارب في ترتيب جدول الأعمال يؤشر إلى عدم وجود قناعة لدى الأطراف بأهمية المشكلات وانعكاساتها على وحدة البلد وحماية أمنه من المخاطر والتهديدات. مثلاً إذا كان الخطر الفعلي من «إسرائيل» فلابد من تركيز الجهد على وضع استراتيجية دفاعية تقطع الطريق على المعبر المذكور. وإذا كان الخطر من شبكات التجسس فلابد من التوافق على تأسيس هيكلية للعقاب من دون تمييز أو مماطلة أو تهرب. وإذا كانت المشكلة متأتية من المحكمة الدولية فإن الواجب يقتضي البحث عن وسائل قانونية عادلة تضمن تنفيس الاحتقان وتمنع انفجاره.
كل هذه الملفات المهمة تحتاج إلى ترتيب منهجي حتى يمكن وضعها في جدول أولويات وذلك بقصد منع اختلاط الأوراق وغيابها وإهمالها ونسيانها في الأدراج وعدم التلهي بنقاط هامشية لا تستحق كل هذا الصراخ وهدر الطاقات وبعثرتها في صراعات أزقة «جمهورية الطوائف». فالأولوية أساسية وهي تخفف التوتر الأهلي وتحد من الغلواء والتعنيف والتكبر وتمنهج خطوات الانتقال العقلاني من ملف إلى آخر.
لعبة الروليت الدائرية تعطل إمكانات التركيز الذهني وتلغي إمكان حفر المشكلة وصولاً إلى الجذور لمعالجتها من الأساس، ثم الانتقال إلى ملف آخر. المسألة كما هو ظاهر في المحطات والفضائيات أن الأطراف ليست مهتمة بحل المشكلات وليست جادة في التعامل مع الملفات لأن القوى على أنواعها تستوي على قاعدة احترام قواعد لعبة الروليت... لذلك تفضل الانتقال من رقم إلى آخر من دون اكتراث لمعادلة الربح والخسارة.
أيُّ ملف أهم، وأيُّ مسألة أخطر، وأيُّ موضوع يحتل الأولوية. كلها أسئلة لا تلقى الجواب لأن المطلوب ليس معالجة المشكلات وفق جدول صارم في تدرجه المنهجي وإنما المحافظة على قواعد اللعبة والاكتفاء بتدوير الملفات في صحن الروليت.
مضى أكثر من شهر على توقف جلسات مجلس الوزراء والخلافات تتنقل من عنوان إلى عنوان وتتساقط الأولويات من الدفاع والتحرير إلى التجسس وشبكات الهاتف وثم إلى شهود الزور وأخيراً وثائق «ويكيليكس»... وبين هذه وتلك ضاعت الملفات وعلى رأسها موضوع استعادة مرتفعات كفر شوبا وتلال شبعا وخراج قرية الغجر.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3016 - الأربعاء 08 ديسمبر 2010م الموافق 02 محرم 1432هـ
Game Over
بسم الله الرحمن الرحيم
أسعد الله اوقاتك يا أستاذي الفاضل
قبل ظهور وثائق ويكيليكس و بعد نشرها, المسرح اللبناني ماضي في عرض السيناريوهات ذاتها, و من خلال نفس الممثلين,
فالمحكمة الدولية -المؤمركة- ستستمر شاء حزب الله أم أبى, و لا أشك بأن الحريري نفسه لا يملك إيقافها (فيما لو أراد ذلك).
تغبيش
القضية في لبنان واضحة: عدو (اسرائيل) وعدالة (الحريري) وكل الرتوش والهوامش الاخرى انما تدور في فلك هذين المحورين والرجاء من الكاتب عدم التغبيش على القارئ بالفذلكات والانجرار وراء العصبيات. شكرا.