جلس ووضع مجلّتين على الطاولة أمامه، وهاتف بلاكبيري وآخر آي فون، وفوق المجلتين وضع جهاز آي باد، ثم فتح كمبيوتره المحمول وبدأ بتصفح الإنترنت وهو يرتشف القهوة.
كان يتنقل بين أجهزته الأربعة بسرعة، ثم يتصفح إحدى المجلتين على عجالة، ولا يبدو أنه استطاع أن يكمل قراءة مقال واحد منهما. أسترِقُ النظر إلى شاشة كمبيوتره فأراه قد فتح عدداً لا يحصى من المواقع الإلكترونية، تتنوع بين الإخبارية وشبكات التواصل الاجتماعي واليوتيوب. وضع في إحدى أذنيه سماعة موصولة بالكمبيوتر، وفي الأذن الأخرى، سماعة موصولة بالآي فون، فبدا شكله وكأنّه نسخة حديثة من فرانكشتاين. وبعد أن انقضت ساعة كاملة، أطفأ كل شيء، وزفر زفير من أنهكه العمل، ثم حمل أدواته ومضى.
بدا ذلك الرجل مرتبكاً ومتردداً وهو ينتقل بين الخيارات المتنوعة أمامه، ويبدو أن رحلته الاستجمامية التي خطط لقضائها في المقهى، قد تحولت إلى أرق آخر، شأنه في ذلك شأن كثير ممن لا يستطيعون العيش دون وجود خيارات لا نهائية في حياتهم، ودون أن يعلموا بأنهم واقعون في مأزق براغماتي عميق.
إن كثرة الخيارات في حياتنا ليست ظاهرة صحية كما نعتقد أحياناً، فالخيارات المتعددة تفقدنا الانسجام مع الحياة، وتنزع منا قدرتنا على تذوق جمال الأشياء البسيطة التي بين أيدينا، وتحيل أنظارنا إلى ما لا نملكه، لتتحول حياتنا إلى رغبات، وتتحول إنسانيتنا إلى ماديات. فكلما زادت خياراتنا زادت حيرتنا وتشتت أذهاننا، فنحن نجلس في المنزل وعقولنا مشغولة بالتفكير في العمل، أو في التخطيط لقضاء مشوار ما، أو في ما قاله الأستاذ في المحاضرة اليوم. نعيش وأجسادنا في مكان، وأرواحنا في مكان آخر، فأفكارنا مبعثرة، وأوقاتنا مسروقة في خضمّ هذه الخيارات اللامتناهية من الماديات، الضرورية والهامشية.
كثرة الخيارات في حياتنا تُنسينا الاستمتاع باللحظة الآنية التي تُعتبر اللحظة الحقيقية الوحيدة، وتلغي من قواميسنا كلمة «الآن» لتستبدلها بكلمات مثل «كان» أو «سوف».
إن التركيز على ما بين أيدينا، وإن كان بسيطاً ومحدوداً، يوحّدنا مع الحياة ويُذيبها في صدورنا، فهو يحررنا من براثن الماضي، ويزيل عنا قلق المستقبل، ويمنحنا المتعة الممتدة بامتداد ذلك التركيز، وهذه هي الخيارات الحقيقية.
الخيارات الحقيقية تحررنا من عبودية الموضة، وتعتق رقابنا من الأحجار الكريمة، وتفك أسر قلوبنا من كل ما يلمع حتى وإن كان ذهباً، وتعيدنا إلى الزمن الذي كان الشيء الواحد فيه يساوي كل الأشياء. الخيارات الحقيقية هي الخيارات التي نقوم بها بأنفسنا، لأنها تعكس رغباتنا وطموحاتنا، والخيارات الكاذبة هي تلك التي يقوم بها الآخرون بالنيابة عنا. إن أسوأ سلب لحرية الإنسان لا يكمن بحبسه في السجن، ولكن في سلبه قدرته على الاختيار.
خياراتنا تصنعنا، تُقَولِبُنا، وترسم مجرى حياتنا. الخيارات الحقيقية لا تحتاج إلى وسائل وأدوات، بل تحتاج إلى قدرة على اتخاذ القرارات، وتحتاج إلى إدراكٍ عميق لأنفسنا، لمن نكون، ولماذا أصبحنا على ما نحن عليه، وماذا يمكننا أن نصير غداً. فلكي تختار الخيار الحقيقي، عليك أن تعيد قراءة نفسك، وتكتشف ذاتك، وعليك أن تعرف من أنت، وما هي النواميس التي تدفعك إلى العمل، وما هي الأشياء التي تزجّ بك في دائرة الكسل.
يعرف معظم الناس الأدوية التي لا تناسبهم وتسبب لهم التحسس الجلدي أوالتلبّك المعوي، ولكن قليلون هم الذين يقضون وقتاً كافياً لاكتشاف ما يناسب أرواحهم، من أوقات، وأشكال، وألوان، وكلمات، وإيماءات، تدفعهم إلى الاختيار الصحيح. إن معرفة النفس فضيلة في حد ذاتها، تدلّنا إلى معرفة طريق الحياة الأنسب لها. ومعرفتنا بأنفسنا تصنع خياراتنا، وخياراتنا تصنع قدراتنا، وقدراتنا تصنع مستقبلنا.
لكي تدرك الخيارات الحقيقية، عليك أن تصغي كثيراً، ولكي تصغي كثيراً، عليك أن تصمت أكثر. فالخيارات تشكّل كل شيء فينا، حتى ماضينا، فعندما نختار العيش في الماضي، فإننا نرسم المستقبل على ملامحه، ليكون نسخة طبق الأصل منه. أن تكون حراً في اختياراتك يعني أن تؤمن بعقلك، وتستمع إلى الأصوات التي تضج بداخلك، تلك التي لن تستطيع كبتها أو التغاضي عنها، لأنها أصوات الحقيقة.
كثرة الخيارات في حياتنا تصيبنا باليأس، لأننا نعجز عن حيازتها كلها، ونادراً ما نحصل على أفضلها. والخوف من الاختيار هو يأس في حد ذاته، وهو تعطيل للقدرات التي نملكها، وإلغاء للاحتمالات المشرقة التي قد تمر في طريقنا يوماً. اليائس هو الشخص الذي يطفئ المصباح ثم يشتكي إضاعته الطريق. لا تُطفئ المصباح حتى وإن كان زيته على وشك النفاد، فمعظم الاستدلالات تأتي قبل موت الأمل بلحظات.
كثرة الخيارات تحجبنا عن رؤية الحقيقة المجرّدة، تلك التي يصلها الإنسان بإنجازاته لا بنوع ثيابه. كثرة الخيارات هي عجز عن الطموح وعن التخطيط، فعندما يختار أحدنا خياراً حقيقياً، كأن يكون مسرحياً مميزاً، يأتي له أحد الغارقين في خيارات الحياة اللانهائية، ليصرخ في وجهه، بصمت، ويقول له: «إن سيارتي أهم من كل مسرحياتك» ثم يصفّق له المجتمع، لأنه يرى الحياة مثله، من خلال خياراته لا من خلال إنجازاته.
الحقيقة خيار واحد، ولذلك يصعب على المرء الحصول عليها، فهي لا توضع على الأرفف مع باقي البضائع، ولا تخضع للمفاضلة أو للمقايضة. الحقيقة خيار وجودي لا يُباع ولا يُشترى، ولكن الخيار ليس بالضرورة أن يكون حقيقة، وخصوصاً عندما يكون في مجتمع لا يقرأ. نحن نختار الحقيقة، عندما نشعر بالحاجة إليها فقط.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3004 - الجمعة 26 نوفمبر 2010م الموافق 20 ذي الحجة 1431هـ
خيــال الإنسان ... مجنّــــــــح
المشكلة تبدأ حينما يجعل المرء تخيلاته أهدافاً لنفسه ثم يبدأ بالشعور بالتعاسة كلما فشل في تحقيقها،فالخيال مجنّح ،يطير بالإنسان إلى أعلى ما يمكن تصوره في الحياة، مع نسيان استعداده المخبوء في طوايا ذاته،ولهذا هنالك أناس ينتحرون بالتدريج مع سبق إصرار وتصميم يعمدون إلى إرهاق أنفسهم وتعذيبها ،والحقيقة فإن من يغرس المستحيل لن يحصد سوى الخيبة تؤهله لنيل الفشل . كل الشكر للكاتب وللوسط ... نهوض