نستطيع أن نتعرّف من معالجة القرآن الكريم لظاهرة الفساد الاقتصادي على بعض خطوات الإصلاح المطلوبة في هذا الحقل الحيوي في المجتمع حتى نقترب من الحالة الصحيحة التي يريدها الإسلام، وهي:
أوّلاً: تصحيح الأفكار الحاكمة في المجتمع بخصوص المال ودوره في الحياة، إلى النظرة الوسطيّة، بين التصوّف والرهبنة، وبين الاتجاه المادي المنفعي... فالمال نعمة ولكن ينبغي الاستفادة منه للذات والمجتمع، بالتمتّع للحياة الشخصية وفائدة المجتمع، فهناك حقّ الله وحقوق عباده، يقول تعالى: (وابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدارَ الآخِرَةَ ولا تَنسَ نَصِيبَكَ من الدُّنيا...)(القصص/ 77).
ويقول: (والذينَ في أموَالِهِم حقٌّ مَعلُوم * لِلسَّائِلِ والمَحرُوم)(المعارج/ 24-25).
وفي نفس السياق يجب تصحيح النظرة الاجتماعية إلى المال كقيمة، فالمال لا يعطي الإنسان قيمة معرفية أو شرعية أو تصحيحاً وتأييداً لعقيدته وفكرته... نعم، المال يزيد في مكانة الإنسان إذا أنفق منه في سبيل الله، في خدمة المجتمع ونفع الإنسانية، إذ إنّ قيمة كل امرئ ليس ما يملكه، بل إن (قيمة كل امرئ ما يحسنه) كما يقول الإمام علي (ع).
إنّ هذه النظريّة الحاكمة اليوم في المجتمعات الرأسمالية، حيث يحكم الرأسمال وهو الذي يمتلك السياسة والإعلام، والشركات الكبرى هي التي تأتي بالحُكّام والرؤساء، وتجد آثارها في سائر المجتمعات... إنّ هذه النظريّة قديمة قدم الإنسان وقد استعرضها القرآن في موضع آخر، في قصة بني إسرائيل، إذ طلبوا منه أن يبعث الله لهم ملكاً ليقاتلوا في سبيل الله، فلمّا عيّن لهم ملكاً اعترضوا عليه لأنّه لم يكن من أصحاب المال، رغم أنّه كان يمتلك المواصفات المطلوبة من الكفاءة العلمية والقدرة البدنية، نقرأ ذلك في قوله تعالى: (وقال لهم نَبِيُّهُم إنّ الله قد بَعثَ لكم طالوتَ مَلِكاً قالوا أنّى يكونُ لهُ المُلكُ علينا ونحنُ أحقّ بالمُلك منهُ ولم يُؤتَ سَعَةً من المال قال إنّ الله اصطفاهُ عليكم وزادهُ بَسطَةً في العِلمِ والجِسمِ والله يُؤتِي مُلكَهُ مَن يشاءُ واللهُ واسعٌ عليم)(البقرة/ 247).
ثانياً: يجب أن توضع حدود وضوابط للتصرُّفات المالية للحُكّام، بعيداً عن الإسراف والتبذير والصلاحيات المطلقة، ويجب أن يكون هناك تناسب معقول بين رواتبهم ومستوى معيشتهم، ورواتب ومعائش الناس، فلا يكون الفارق كبيراً.
إنّ الإسلام لا يلغي الفروق في الرواتب والحوافز المالية، كما تفعل الماركسيّة، لأنّ الفروق في الكفاءات والإمكانات طبيعية ولكل عطاء، بحسب جهده وكفاءته وإبداعه ولأنّ إلغاء الفروق يقتل الحوافز ويعطل ماكنة الحياة من التقدّم والتطوّر، ولكنه في نفس الوقت لا يرضى بالفروق الهائلة التي تجعل الحُكّام في واد من الترف والرفاهية، بل الإسراف والتبذير، والناس في واد سحيق من الفقر والعوز.
لقد ذكر القرآن الكريم «الإسراف» كعلامة فارقة ومميّزة للفساد والفاسدين في أكثر من موضع، وشدَّد النكير على ذلك حتى جاء الأمر الإلهي: (فَاتَّقُوا اللهَ وأَطِيعُون *ولا تُطِيعُوا أمرَ المُسرِفِين * الذين يُفسِدونَ في الأرضِ ولا يُصلِحُون)(الشُّعراء/ 150-152).
وهكذا يجب العمل على أن يكون أهمّ المعايير الأساسية لتمييز صدق الحاكمين وصلاحهم من زيفهم وفسادهم، ولسائر الأفراد والجماعات، هو أسلوب تعاملهم مع المال من حيث الإسراف والتبذير ومدى رعايتهم لحقوق الله وحقوق الناس.
ثالثاً: يجب العمل على العدالة في توزيع الثروة، وتجنّب الاحتكار، وتمركزها بيد عدّة معدودة أو طبقات خاصّة، واستفادة عموم أبناء الشعب من خيراتها وبركات البلد، وخصوصاً المحتاجين والمتضرِّرين منهم، يقول تعالى: (مَا أَفاءَ اللهُ على رَسُولِهِ مِن أهلِ القُرى فَلِلّهِ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُربى واليَتامى والمَساكِينِ وابنِ السَّبِيلِ كَي لا يَكونَ دُولَةً بَينَ الأغنِياءِ مِنكُم وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا واتَّقُوا اللهَ إنّ اللهَ شَديدُ العِقاب * لِلفُقَرَاءِ المُهاجِرِينَ الذينَ أُخرِجُوا مِن دِيارِهِم وأموَالِهِم يَبتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ ورِضوَاناً ويَنصُرُونَ اللهَ ورَسُولَهُ أولئِكَ هُمُ الصَّادِقون)(الحشر/ 7-8).
ويجب تعديل قوانين الضريبة لكي يذهب جزء من واردات المتموّلين وأصحاب الثروة إلى الفقراء والمحتاجين، كما يقول تعالى: (والذينَ في أموَالِهِم حقٌّ مَعلُوم * لِلسَّائِلِ والمَحرُوم)(المعارج/ 24-25).
وبالتالي، يجب أن يكون هدف الدولة الأساسي هو العدالة الاجتماعية وتأمين الضمان الاجتماعي لتوفير الحدّ الأدنى للحياة الكريمة لسائر المواطنين، وليس على أساس البرامج الاقتصادية الرأسمالية من دون مراعاة حقوق الناس وحفظ كراماتهم.
يقول تعالى: (إنّ الله يأمُرُ بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى ويَنهى عن الفَحشاء والمُنكر والبَغي يَعِظُكُم لعلّكم تذكَّرون)(النحل/ 90).
رابعاً: يجب العمل على وضع القوانين والأنظمة التي ترتب الأعمال الاقتصادية على أساس الإنصاف ورعاية الحقوق والالتزام بالموازين العلمية الصحيحة والقواعد الشرعية والقانونية، ومراعاة نظم المواصفات النوعية والفنّية، حتى لا يضيع حق جميع الأطراف ولا يبخس الناس أشياءهم. فمكافحة الفساد لا يكفي فيها النصيحة والإرشاد، بل لابدّ أن تتحوّل القيم والمفاهيم إلى أحكام وتشريعات ملزمة يحاسب عليها ويعاقب المتخلِّف عنها.
يقول تعالى: (وَالسَّماءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ * ألاّ تَطغَوا في المِيزَان * وأقِيمُوا الوَزنَ بِالقِسطِ ولا تُخسِروا المِيزان)(الرّحمن/ 7-9).
خامساً: بسبب الفساد والظلم: تضيع حقوق وتسلب أموال ويكون هناك ظالمون ومظلومون ومنتفعون ومحرومون... ولابدّ أن يعمل المصلحون على إرجاع الحقوق والأموال المسلوبة إلى أصحابها ورفع الحيف عن المظلومين والمضطهدين.
ولا يكفي في هذا المجال رفع الشعارات، أو حتى تصحيح الأوضاع المستقبلية من دون معالجة آثار الماضي الذي نهشت فيه مخالب المجرمين الفاسدين في أجسام الناس ونخرت في نفوسهم... فالمسألة ليست مجرّد ذنب شخصي ينتهي بتوبة فردية بين الإنسان وربّه، وإنّما المسألة مسألة اعتداء على حقوق الآخرين وسلب ونهب لأموالهم أو ممتلكاتهم، فلابدّ أن ترجع إليهم حقوقهم، ولابدّ أن تعمل الدولة على ذلك إن كانت جادة على إعادة الحق إلى أهله بأسرع ما يمكن.
وفي القرآن الكريم مثال بَيِّن على هذا الأمر، حيث أوقف الله تعالى قبول توبة المذنب الذي سرق أموال الناس على إصلاح الوضع، يقول تعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإنّ الله يتوب عليه إنّ الله غفور رحيم)(المائدة/ 39).
فقد قال المُفسِّرون: فَمَن تاب من بعد سرقته وأصلح أمره: بردّ ما سرقه والخلاص من تبعات عمله والعزم على ألا يعود إلى ما كان عليه، فإنّ الله يتوب عليه. وهكذا لابدّ أن تتّجه حركة الإصلاح إلى تصحيح الأوضاع الاقتصادية واسترجاع الحقوق المسلوبة، وإعادتها إلى أهلها، سواء كانت تعود للحق العام وبيت المال: للدولة، أو للمؤسسات الأهلية أو الأفراد، بلا فرق.
العدد 3003 - الخميس 25 نوفمبر 2010م الموافق 19 ذي الحجة 1431هـ