امام العراق «فترة انتقالية» قد تطول ولا يعرف احد مداها. المفترض وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي 1483 ان تهيئ تلك الفترة العراق للانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي دستوري قادر على الاستقرار. لكن هذه المهمة أوكلت إلى السلطة المدنية التي اقامتها قوتا الاحتلال - الولايات المتحدة وبريطانيا - وأضفتا عليها «شرعية دولية». انتج هذا الوضع المستجد على القانون الدولي معضلات، لا تبدو لها على الافق حلول سوى مخططات تعلنها تلك السلطة، لاتزال كلها شفهية.
في مقابل سلطة الاحتلال توجد الجماعة السياسية العراقية التي يختلط فيها «الحابل بالنابل». أو كما يقول نائب رئيس تجمع الديمقراطيين المستقلين مهدي الحافظ: «الحقيقة هي فراغ سياسي... يلزم وقت طويل من العمل السياسي حتى تحتل القوى مواقعها الشرعية».
مع ذلك يلوح في الافق مسعى لاقامة ائتلاف وطني عراقي يضم قوى تتمتع بشرعية تاريخية، يقوم بصوغ مشروع للانتقال من الاحتلال إلى الاستقلال والحكومة الدستورية.
في مؤتمر صحافي عقده بول بريمر في 14 الشهر الماضي شهده كاتب هذه السطور، بدا رئيس الادارة المدنية للتحالف الأميركي/ البريطاني في العراق رجلا في مأزق لا يستطيع انكاره ولا يريد الاقرار به.
عندما سئل هل تعتبر «حصيلة وجودكم في العراق ايجابية في ضوء ما يلحق بكم من خسائر» اجاب «في كلمة واحدة (على حد تعبيره) لا». وعندما سئل اذا ما كان لدى التحالف تصور مسبق للحكم في العراق، بدا كمن يتعجل انتهاء «مهمة» التحالف، «نتوقع ان تضع مسودة الدستور جمعية تأسيسية نأمل ان تنعقد في وقت لاحق هذا الصيف. تعرض المسودة للاستفتاء. بإقرار الدستور تجري الانتخابات وبعدها تنتهي مهمة التحالف». واجاب عن سؤال عن معايير تأهل الوضع العراقي لتلك الانتخابات بتكرار الحديث المكرر عن «الادارة المؤقتة والمجلس السياسي والمجلس الدستوري».
لكن هذا الانطباع قد يكون مبنيا على ظاهر الأمور، وقد يكون بريمر يتقصد اشاعته.
تظهر ابعاد المأزق الذي لا يستطيع بريمر انكاره ولا يريد الاقرار به الحيز الذي تشغله «الجماعة السياسية العراقية» في حالتها الراهنة.
يقول نائب رئيس «تجمع الديمقراطيين المستقلين» مهدي الحافظ ان «الحقيقة هي فراغ سياسي. والقوى غير المنضبطة هي القوى الشائعة. يلزم وقت طويل من العمل السياسي حتى تحتل القوى مواقعها الشرعية. (...) المشكلة ان هناك قوى ترى في الوضع الحالي فرصة للقفز إلى السلطة على اساس من الحصص الدينية والطائفية».
«الوجه الآخر للحقيقة القائمة يتمثل في امرين: يحاول الأميركيون وضع العشائر في مواجهة القوى السياسية وجعلها بديلا جزئيا عنها. أما الوجه الثاني فهو عملية انتخاب المحافظين والادارات المحلية والبلدية. هذه عملية مفتعلة. لا تتوافر المقومات الضرورية لاجراء انتخابات حتى على مستوى البلديات. المجتمع العراقي حتى اصغر وحداته في حالة من الحركة والاضطراب». عن هذه الانتخابات ينتشر اعتقاد في بغداد بأن السلطة تسعى من خلالها إلى ابراز قيادات محلية موالية لها ومساعدتها على النجاح في مهماتها المحلية، كي يسهل بعد ذلك دفعها إلى صدارة المسرح السياسي الوطني.
يبدو ما يقوله الحافظ وصفا لمأزق الجماعة السياسية العراقية بقدر ما هو تشخيص لمأزق الادارة التي يرأسها بريمر. لكن يبدو ايضا ان نقطة الاشتباك بين الطرفين تقع عند محاولة سلطة الاحتلال حل المأزق لصالحها من طريق التعجيل، بينما تدعو نظرة الحافظ إلى التأني. غرض سلطة الاحتلال من التعجيل هو انه يتيح لها القيام بعملية «تلفيق سياسي» تخدم اهدافها: الامساك بالسلطة في البلاد على مدى الفترة الانتقالية غير محددة المدى وان كان يستحسن ان تنتهي قبل نضوج الوضع السياسي الداخلي واستقراره على نحو لا تضمن واشنطن ولندن توجهاته. الطريق إلى ذلك هو التعجيل بعقد «مؤتمر وطني» يقرر مصير العراق ويحدد صيغة الحكم فيه في المستقبل. عماد المؤتمر قوى المعارضة الخارجية التي حملتها قوات الغزو إلى البلاد، مع تطعيمها بقوى تقليدية - العشائر، وبقوى طائفية - دينية وقومية، التركمان. المسيحيون الذين تحاول ادارة بريمر ان تضفي عليهم وزنا يفوق طموحهم. الجناح الاضعف من الحركة الكردية. استثمار مخاوف السنة العرب من تراجع وزنهم في اعادة صوغ السلطة. بعض الاطراف الشيعية التي اقامت معها الولايات المتحدة علاقات اثناء وجودها في المنفى. إلى عناصر انتهازية من بقايا النظام السابق ترشحها دوائر بريطانية بحجة الحاجة إلى «كادر بيروقراطي» على دراية بإدارة البلاد.
نجحت القوى السياسية غير الموالية لـ «التحالف» في ازاحة مشروع ذلك المؤتمر من على جدول الأعمال «ليس من حيث المبدأ» وانما من حيث الملاءمة. «ناس لا يعرفون بعضهم. قوى غير متناسقة»، كما يقول مهدي الحافظ.
أمام ذلك تراجعت «السلطة» الى فكرة «المجالس» السياسية والدستورية، ثم اضيف اليها الاقتصادية. مازالت هذه محلا للتداول، انما من دون ان ينضج منها شيء. اهم الاسباب هنا هي - حسب متحدث باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني - انه لا جواب متفقا عليه عن السؤال عن «من يحدد الشريك العراقي لسلطة التحالف اثناء الفترة الانتقالية؟ السلطة ام القوى السياسية العراقية؟». يريد بريمر ان يتم اختيار «المجالس» عبر مشاورات مع القوى السياسية. ويقوم بترويج قوائم بأسماء مرشحة لعضوية هذا المجلس أو ذاك، لا شيء منها يحظى برضا مقنع من القوى السياسية لأنها، في رأي ذات الوزن بينها، اختيرت على الأسس غير المقبولة ذاتها وانها ترجح وزن القوى التي أيدت الغزو على القوى التي عارضته.
هل من مخرج من المأزقين
المتعارضين المتقاطعين؟
يقول عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي مفيد الجزائري: ان المشاورات بدأت بين عدد من الاحزاب والقوى السياسية التي عارضت الغزو لصوغ «برنامج لانتقال السلطة» يوضع امام سلطة الاحتلال باعتباره موقف الغالبية في الجماعة السياسية العراقية. اي انه يعبر عن توافق وطني. ويقول ان المشاورات الأولية تشمل إلى جانب الحزب الشيوعي ونظيره الكردي، الحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الوطني الديمقراطي وتجمع الديمقراطيين المستقلين وحزب الدعوة. يقول ان هذه هي النواة التي ستأخذ على عاتقها صوغ مشروع البرنامج الانتقالي، لكن الائتلاف سيكون مفتوحا لأي حزب أو قوة سياسية توافق على المشروع.
أما معالم ذلك البرنامج فلم تتضح بعد، لكن الافكار الأولية المتداولة تدور حول أسس تشكيل حكومة عراقية انتقالية تتولى مهمتين:
الأولى هي ادارة شئون البلاد من دون تعارض مع قرار مجلس الأمن الذي اضفى شرعية على «سلطة التحالف». مبرر هذه المهمة يشرحه نائب رئيس «تجمع الديمقراطيين المستقلين» مهدي الحافظ بأن قرار مجلس الأمن منح سلطة التحالف الصلاحية لكل شيء، بينما واقع الأمر انها قاصر عن ذلك. لابد من اقامة حكومة عراقية، انها الاقدر على حفظ أمن المواطنين والاقدر على تأمين ما يحتاجون إليه من خدمات.
المهمة الثانية هي التهيئة للمسار الدستوري. وهو ما يشرحه رئيس تجمع المستقلين وزير الخارجية السابق عدنان الباجه جي بالتساؤل عن اذا ما كان ما حدث منذ 20 مارس/آذار اسقاط نظام حكم أم اسقاط دولة. قرار مجلس الأمن وضع السيادة العراقية على الرف لمدة سنتين. اي انه اسقط الدولة. اعترضنا. بحثنا اعتراضنا مع سلطة التحالف ومع الأمم المتحدة. قلنا انه لا يجوز ان تختفي الدولة العراقية، احدى الدول المؤسسة للأمم المتحدة. حصلنا على مؤازرة بعض الاخوة، تغيّر الاتجاه. الموقف في مصلحتنا. نسعى إلى تغيير تسمية الادارة العراقية المؤقتة أو الانتقالية، إلى الحكومة العراقية الانتقالية. وتحويل مرجعيتها من «سلطة التحالف» المبنية على واقع الاحتلال إلى إطار مجلس الأمن. عندئذ سيكون بوسع الحكومة المؤقتة تمثيل العراق دوليا وتبادل السفراء مع الدول الاخرى. اهم معالم السيادة يجب ان تبقى بيد حكومة عراقية. سيكون على تلك الحكومة اجراء احصاء للسكان تمهيدا للانتخابات. وسيكون عليها سن قانون الانتخاب.
لا تقتصر مساحة التقاطع والتعارض بين سلطة الاحتلال وبين الجماعة السياسية العراقية على «الفترة الانتقالية» وطريقة الانتقال إلى الحكم الدستوري، انما تشمل ايضا موضوعات لا يتناولها الجدل العلني الجاري. ابرز تلك الموضوعات هو طبيعة الحكومة العراقية في المستقبل. اي هل سيقوم الحكم العراقي على اساس الدولة الموحدة ام الدولة الفيدرالية التي كثر الحديث عنها قبل الحرب، حتى بدت امرا مسلما به و نظاما متفقا عليه، بعد ان أبدت معظم القوى السياسية العراقية تراضيها عليه.
كان الحديث عن «عراق ديمقراطي فيدرالي» في حقيقته عنوانا شفريا لحل المشكلة الكردية في العراق.
يتردد الآن في الاوساط السياسية العراقية حديث عن «نظام اداري» بدأت «السلطة» وضع أسسه واقامة لبناته الأولى على الأرض، وانها تهيئ لادخاله في صلب الدستور العراقي على رغم الحديث عن «جمعية تأسيسية عراقية» تضع الدستور.
بحسب ما هو متداول يقوم ذلك النظام الاداري على قاعدة اللامركزية متعددة المستويات. بينما تتمتع المحافظات بصلاحيات كبيرة في ما يخص الخدمات، يجري تجميع المحافظات في ثلاثة اقاليم جغرافية: شمال ووسط وجنوب.
الشمال يضم إلى المحافظات الكردية الثلاث: السليمانية وأربيل ودوهوك، المحافظة التي يتنازع هويتها القومية الاكراد والعرب وأخيرا، التركمان. وكذلك محافظة الموصل التي لا نزاع في الهوية العربية للغالبية العظمى من سكانها وتعتبر معقلا للحركات القومية العربية.
يدور الوسط حول العاصمة - بغداد وما حولها من محافظات يغلب فيها العرب السنة، لكنه يضم ايضا محافظتين يغلب فيهما العرب الشيعة.
بينما يضم الجنوب إلى المحافظات التي يغلب فيها العرب الشيعة محافظتين يغلب فيهما العرب السنة.
يبدو المشروع - على الورق - خطوة إلى الامام، إذ يصب - نظريا - في اضعاف نزعات التمايز القومي والديني/الطائفي. أما في الواقع السياسي العراقي فإنه يبدو معاندة لذلك الواقع، وخصوصا بالنسبة إلى اكراد العراق الذين استقر لديهم مطلب الفيدرالية بديلا عن مطلب الحكم الذاتي الذي اعتبروا انه يخلو من البعد القومي. وعن مطلب الاستقلال الوطني، بعد ان ادركوا المصاعب والمخاطر التي تحول دون التوحيد القومي لـ «الوطن الكردي» الموزع بين دول اربع: تركيا وايران وسورية اضافة إلى العراق، التي لن ترضى اي منها باستقطاع جزء من أراضيها لحساب مشروع دولة كردية.
يتضمن مشروع اللامركزية الادارية هذا بعدا سياسيا اذ يرمي إلى ان يتكون البرلمان العراقي من مجلسين على النمط الأميركي، إذ يقوم مجلس للشيوخ أو الاعيان على تمثيل متساو للاقاليم - 20 عضوا عن كل اقليم. بينما يقوم مجلس النواب على دوائر انتخابية على اساس عدد السكان. يخشى الذين نمي اليهم علم بهذا المشروع ان تكون واشنطن غلَّبت اعتباراتها الاقليمية - ارضاء تركيا التي اعترضت رسميا وعلنا على الاخذ بالفيدرالية في العراق، ليس فقط على وعودها لحلفائها اكراد العراق، انما على مستقبل الاستقرار في العراق.
ويفسر البعض في هذا الضوء ما يرونه فتورا في العلاقات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وبين سلطة التحالف يقابله تقارب حثيث بينه وبين الاحزاب التي عارضت الغزو وبين الذي ايده واحتفى بانتصاره.
يخشى الاريبون المستريبون من بين المشتغلين بالشأن العام في العراق من ان يكون مأزق «سلطة التحالف» ظاهريا ومتعمدا. وان اشارات التعجل في انهاء «المهمة» تخفي وراءها رهانا على هشاشة الجماعة السياسية العراقية بعد طول كبت واغتراب يؤديان بالضرورة إلى تعثر محاولات التقارب والائتلاف في صفوفها. وانها تطلق اشارات التعجل حتى يبدو طول بقائها ضرورة فرضتها عليها الأوضاع.
يبرز بين هؤلاء فلك الدين كاكائي، احد اقطاب الحزب الديمقراطي الكردستاني، لكنه ليس الوحيد. غير قليل من اقطاب الحزب الشيوعي العراقي ومن ذوي الاتجاهات القومية العربية والوطنية العراقية التي تعبر عنها صحيفة «الأهالي» التي عاودت الصدور ناطقة باسم الحزب الوطني الديمقراطي، يقبلون الفكرة، انما باعتبارها احتمالا واردا يجب اخذه بالحسبان والتهيؤ لمواجهته حال تحققه.
السؤال الذي يترتب على ذلك هو ما العمل اذن؟
والجواب البديهي هو: المقاومة.
لكن المقاومة ليست مفهوما لا يتسع لتعدد الاجتهاد.
غدا: المقاومة
العدد 299 - الثلثاء 01 يوليو 2003م الموافق 01 جمادى الأولى 1424هـ