بدأ مسئولون في سلطة الاحتلال العسكري في العراق التحدث لأول مرة بشكل علني عن قتال طويل الأمد لقمع المقاومة العراقية في وقت يستعد فيه وفد من كبار زعماء مجلس الشيوخ لزيارة العراق إضافة إلى فريق شكله وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد لبحث وضع قوات الاحتلال الأميركي وتقديم تقرير يتضمن توصياتهم قبيل مراجعة البنتاغون لتقييم متطلبات الوجود العسكري في العراق التي يتوقع صدورها هذا الأسبوع.
وأعرب العضو الديمقراطي في وفد مجلس الشيوخ كارل ليفين عن شكه في أن حكومة الرئيس الأميركي جورج بوش مستعدة لتقديم المعلومات بالنسبة إلى عدد القوات المطلوبة أو المدة التي ستقضيها في العراق. وقال: «إن القوات مبعثرة في العراق بـ 360 درجة وموزعة بالآحاد أو كل اثنين معا في شوارع العراق وهم يعانون من عواقب ذلك».
وعلى رغم رفض المسئولين في البنتاغون وصف عمليات المقاومة العراقية بحرب عصابات في أعقاب تصاعد عمليات القتل والتخريب التي تلحقها هذه العمليات بقوات الاحتلال ومرافقها، وخصوصا في الأسبوعين الأخيرين فإن خبراء عسكريين يقولون إن ما تواجهه قوات الاحتلال الأميركي على الأرض في العراق يحمل كل بصمات حرب العصابات حتى وإن كانت هناك مجموعات معارضة بدلا من وجود حركة واحدة. وتصاعد المعارضة، من شأنه أن يزيد في عرقلة مشروعات وبرامج سلطة الاحتلال الأميركي في ما تسميه «إعادة الإعمار المدني».
وقال قائد القيادة المركزية الجديد الجنرال جون أبا زيد إن تصميم الولايات المتحدة على المحك، موضحا «ان الكثير من الناس في المنطقة يعتقدون أن ضعفنا يكمن في عدم مقدرتنا على الاستمرار في هذا الطريق وهم يعتقدون أن إصابتين في اليوم وإصابتين غدا وأربع إصابات في اليوم الذي يليه ستؤدي في النهاية إلى إخراجنا من العراق.» وقال: «إن الناس يعتقدون بذلك اعتقادا جازما ونحن بحاجة إلى أن نكون حازمين بأنه لا يمكن إخراجنا».
وقال مسئول عسكري كبير في قوة الاحتلال الأميركي في العراق يوم السبت «إن الرسالة الأولى الواضحة هي أن هذه الحرب لم تنته وكلنا باعتبارنا عسكريين أهداف ومعرضون للاشتباك». وقال إن الأميركيين لن يستسلموا حتى يتم القضاء على المقاومين وإن الحرب لن تنتهي حتى يعمل كل عراقي بنشاط مع الأميركيين لإلحاق الهزيمة بما أسماه بـ «أعداء العراق».
ولكن الأرقام تظهر صورة مقلقة للأميركيين، فمنذ أن أعلن الرئيس بوش نهاية مرحلة العمليات العسكرية الرئيسية من الحرب في العراق في الأول من مايو/ أيار الماضي فإن 64 جنديا اميركيا قتلوا طبقا لما ذكرته البيانات الصحافية لوزارة الدفاع الأميركية.
وحتى الأيام الأخيرة كان المسئولون العسكريون الأميركيون يصرون على أن الهجمات هي من عمل بقايا نظام حكم الرئيس العراقي صدام حسين، أما الآن فقد أخذوا يتحدثون عن أن القوات الأميركية تواجه قوات معارضة كثيرة ومتنوعة. كما أن الخبراء العسكريين من خارج الحكومة يوافقون على هذا التقييم.
وقال مسئول عسكري كبير في واشنطن «إننا سنفعل ما فعلناه في ألمانيا واليابان وسنضع دستور العراق وسننصب الحكومة العراقية وسنكتب قوانين العراق وسنراقب تحركاتهم طيلة عقد، وبعد ذلك يمكن أن يكون للعراقيين فرصة القيام بذلك بأنفسهم». ويرى المسئولون في البنتاغون والبيت الأبيض وبعض الخبراء العسكريين أن هناك إجماعا عاما في الرأي على أنه يوجد على الأقل ثلاث قوى تحاول زعزعة الاستقرار في العراق هي: أنصار صدام حسين، والمقاتلون الأجانب، والمستاءون من الأوضاع المعيشية بعد أن أطاحت قوات الاحتلال بنظام حكم صدام حسين.
وينسب المسئولون الأميركيون معظم عمليات المقاومة إلى العراقيين العرب السنة إلا أنه بدأ الحديث أيضا عن أن العراقيين العرب الشيعة أخذوا يظهرون حالا من عدم الارتياح. كما يلقي المسئولون باللوم على إيران لإثارة حالة الاضطراب بينهم وقالوا إن الكثير من المقاومين العراقيين يعتقد أنهم مسلحون بأسلحة أرض - جو محمولة تهدد الطائرات العسكرية الأميركية. وقال رئيس قيادة النقل في سلاح الجو الأميركي الجنرال جون هاندي انه تم الحد من نوع طائرات الشحن التي يمكن أن يسمح لها بالتحليق في العراق. وقال يوم الأربعاء الماضي إن الطائرة الوحيدة المسموح لها بالتحليق في العراق بإمدادات هي سي17 مع سي130 والمزودتان بجهاز إنذار مبكر وأنظمة دفاعية. وأضاف: «لاتزال هناك عمليات إطلاق نار وتقارير عن إطلاق نار ما يجعلنا قلقين جدا».
ويقول الكثير من الخبراء الأميركيين إن القلق الذي ينتاب المسئولين الأميركيين إزاء استمرار نزيف القوات الأميركية بسبب عمليات المقاومة هو ما قد يسببه من تقليل دعم الشعب الأميركي لاحتلال العراق ما يفترض انسحابا مبكرا لقوات الاحتلال وهو ما تحاول الحكومة الأميركية تجنبه. فالمسألة الحساسة بالنسبة إلى البيت الأبيض كما هي بالنسبة إلى الرأي العام الأميركي هي إلى متى تستمر الإصابات وسط القوات الأميركية من دون أن تسفر عن تآكل في الدعم للسياسة الأميركية الحالية. وبدأ القلق لدى الرأي العام الأميركي يفصح عن نفسه في استطلاعات الرأي. وقال خبير سياسات الحرب بجامعة أوهايو، جون مولر، إن الأسباب الثلاثة التي استندت إليها حكومة بوش لتبرير حربها على العراق واحتلاله وهي أسلحة الدمار الشامل والإرهاب والعمل الإنساني لم يبق منها سوى الثالث بعد الفشل في إيجاد السببين الأولين. وقال إنه في هذه الحال «لا يبقى لديك سوى مغامرة إنسانية، والناس يرغبون في عمل ذلك ولكن السؤال هو كم من الأرواح الأميركية تستحق ذلك وهذا السؤال سيتم توجيهه أكثر فأكثر».
ولتحويل انتباه الأميركيين عن قتلى جنودهم في العراق اتبعت وزارة الدفاع الأميركية والبيت الأبيض تكتيكا يتضمن التركيز على قضايا أخرى مثيرة مثل أسلحة الدمار الشامل، والمخابرات الأميركية ومكان وجود الرئيس العراقي صدام حسين، كما أن الانقسامات العميقة بين قيادات الحزب الديمقراطي وخصوصا بين المرشحين لانتخابات الرئاسة الأميركية عرقلت الاتفاق على صوغ رسالة موحدة بشأن العراق يمكن أن تعزز الرأي العام ضد الدور الأميركي في العراق.
وبينما كانت رسالة ثلاثة أعضاء بارزين في مجلس الشيوخ الذين قاموا بزيارة للعراق أخيرا في مهمة لتقصي الحقائق قالوا فيها إنه من الناحية الواقعية تحتاج الولايات المتحدة إلى الإبقاء على التزام رئيسي من القوات والتمويل في العراق لمدة تتراوح بين 3 و5 سنوات على الأقل فإن معهد «كاتو» للأبحاث في واشنطن أوضح أن «الخطر يكمن في كون القوة الأميركية في العراق قوة احتلال وفي هذه الحال فإنك تؤكد الكراهية كلما طال أمد بقائك». وأضاف المعهد في تقرير أصدره بهذا الشأن «ان الاتجاه الطبيعي هو البقاء لإصلاح المشكلة ولكن الحقيقة هي القبول بأن هناك بعض الأشياء لا تستطيع حتى الدول الكبرى القيام بها».
وقد رفض البيت الأبيض حتى الآن تحديد إطار زمني لإعادة إعمار العراق مؤكدا أن قوات الاحتلال الأميركي ستظل هناك «طالما كان ذلك ضروريا ولكن ليس أكثر من يوم واحد».
ويرى محللون في واشنطن أن من الأمور غير المعروفة هي كيفية رد فعل الرأي العام الأميركي على هجوم كبير تتعرض له قوات الاحتلال الأميركي في العراق على غرار الهجوم الذي تعرضت لها قوات مشاة البحرية الأميركية (المارينز) في بيروت العام 1983 وراح ضحيته أكثر من 200 جندي أميركي أو قتل وسحق 17 جنديا من المارينز في مقديشو بالصومال. ولكن مسئولي البنتاغون يردون على ذلك بالقول إنها قد لا تؤدي بالضرورة إلى صرخات واسعة من أجل الانسحاب من العراق بل قد تؤدي إلى تشديد التصميم الأميركي على البقاء هناك.
وقال نائب وزير الدفاع الأميركي بول وولفويتز إن الاتجاه في الطريق لايزال جيدا ويجب ألا ينظر إليه من خلال عدسات حوادث يوم واحد، وأضاف في تصريح له: «إن الاتجاه واضح تماما... إنه نحو عراق أكثر أمنا يضعف فيه الموقف البعثي وتجري فيه إعادة الخدمات». ولم يتنبأ وولفويتز بأي تغييرات رئيسية في الموقف العسكري الأميركي في الرد على هجمات المقاومة العراقية وقال: «اعتقد أن الأسلوب الأساسي الذي تستخدمه القوات هو أسلوب سليم».
لكن ما يقوله وولفويتز يتعارض مع ما يقوله الخبراء بشأن الهجمات، إذ أعربوا عن قلق جديد بشأن مجرى الأحداث. وقال العقيد المتقاعد من سلاح الجو الأميركي ريتشارد أتشيسون: «إننا إذا لم نتحرك بسرعة فإن المعارضة ستأخذ بالازدياد وسنواجه مشكلة أكبر بكثير مما نواجه الآن». أما الخبير السابق في وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية جيفري وايت فقال: «هناك الكثير من نواحي القلق بشأن الوضع الراهن».
وقال مسئول أميركي إن الإصابات في صفوف قوات الاحتلال في العراق ستحدث على الأرجح طيلة أشهر مقبلة وأشك في أن نرى عنفا محدودا لمدة ستة أشهر أو نحو ذلك. مشيرا إلى أن المشكلة هي «أنه يتعين على القوات الأميركية لكي تكون فعالة أن تقوم بدوريات وعمليات تفتيش في العراق ولكن ذلك سيجعلها عرضة للخطر والاختراق».
وقال وولفويتز إن المعارضة العراقية محكوم عليها بالفشل لأنها تعمل من دون شكلين أساسيين من التأييد هما: الافتقار إلى التعاطف الشعبي والافتقار إلى أي دعم جدي خارجي. غير أن الدبلوماسي الأميركي السابق الذي عمل مستشارا للقيادة المركزية للشئون العربية، لورنس بوب، قال: «خلال الأشهر المقبلة أتوقع استمرار مسلسل العنف الذي ستؤدي فيه إجراءات حماية القوات إلى إبعاد الشعب وإيجاد مزيد من المعارضة للاحتلال مع ازدياد عدد الإصابات». فيما قدم الجنرال الأميركي المتقاعد من سلاح المارينز كاريليتون فولفورد صورة قاتمة أكثر وتوقع أن يكون هناك «نفق طويل قاس في العراق» وقال فولفورد: «كلما طال أمد ذلك ازدادت الحوادث عنفا وقد تعلمنا ذلك في لبنان والصومال، وإن العراق يشكل تحديا أكثر مما شكله التحدي في أي من البلدين».
ونقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن مسئول أميركي في سلطة الاحتلال في العراق قوله «إن تحييد المقاومة البعثية يثبت أنه مهمة أكثر صعوبة مما قدرت البنتاغون كما أن استمرار العنف أخذ يتحول إلى إحراج». ويقول العقيد المتقاعد من الجيش الأميركي سكوت فيل: «إن الأميركيين هزموا صدام ولكنهم لم يهزموا الشعب العراقي، ولذلك فإن سيكولوجية المهزوم ليست موجودة»
العدد 299 - الثلثاء 01 يوليو 2003م الموافق 01 جمادى الأولى 1424هـ