ما أن ينتهي المرء من قراءة رواية نورة الشيراوي «غاية» الصادرة في العام 2008، حتى يمطر نفسه بزخات من الأسئلة المتلاحقة الباحثة عن إجابات سريعة مثل: ماذا يمثل «ثاني» الطفل العويج والشخصية الرئيسية في القصة، والذي يتجاوز حضوره، كما يبدو من النص، مجرد طفل يبحث عن من يتعاطف معه جراء الإعاقة التي ورثها عن مرض؟ إلى ماذا ترمز «غاية» التي تتقاسم دور الشخصية الرئيسية مع ابنها ثاني، والتي من الخطأ تحجيم هذا الدور في مجرد أم ضريرة اضطرتها ظروفها إلى معايشة ابن معاق؟ ماذا تعني «عتبة الباب المرتفعة» التي كانت تقف سدا منيعا بين «العويج ثاني» وبقية المجتمع؟ لماذا تصر الشيراوي على أن تكون هناك أكثر من رواية «دينية إسلامية» لما يواجهه الإنسان من مواقف في هذه الحياة مثل «الموت»؟
لن أتناول «غاية» من الناحية الأدبية المحضة، فرغم أهمية ذلك المدخل، لكن تلك الأهمية الإبداعية تتضاءل عندما نغوص عميقا في النص بحثا عن مدلولاته الفكرية والفلسفية، حيث تنسج الشيراوي، بقلم رشيق علاقات اجتماعية متداخلة بين أفراد العائلة البحرينية، ثم ترنو بنظرها خارج إطار تلك العلاقات كي تصلها بعلاقات الحي الواحد، ولا تتوقف عند ذلك، بل تتسع دائرتها كي تشمل المجتمع البحريني في منتصف العقد الرابع من القرن الماضي، بما يشمل أيضا من جاليات أجنبية، سواء تلك العاملة في الحقول الخدماتية، مثل أطباء الإرسالية الأميركية، او المستشفى الحكومي، او أولئك ممن كانوا منخرطين في العمل السياسي مثل المستشار البريطاني، ومعه أفراد القاعدة البريطانية في المحرق.
لنبدأ بالطفل المعاق «ثاني»، المصاب بشلل في إحدى رجليه مما يضطره إلى الاستعانة بعكازين للقيام بأي حركة. تحاول الشيراوي أن تموه «عناد» ثاني بتبريرات متكررة، لكنها في نهاية الأمر، وفيما يشبه الاعتراف الذاتي تقر (ص 168) عندما ترسم لوحة الحوار بين مدير المدرسة وخليفة، بشأن ابن هذا الأخير. تزج الشيراوي بـ «غاية «، كي تعترف بالنيابة عنها، انها وهي تتذكر «في أسى مرض طفلها (ثاني) وهو برغم المأساة التي يرزح بها إلا انه طفل عنيد ومشاكس».
من يعرف خط سير مراحل حياة نورة الشيراوي، لا يستطيع إلا ان يربط بين «عند» ثاني و»عندها» هي ذي البعد الإيجابي البناء، والذي تبلور في أكثر من محطة من محطات حياتها. عبرت الشيراوي عن ذلك العناد البناء عندما انصاعت لقيود التقاليد، وقبلت، مظهريا، بالجلوس في البيت، لكنها في حقيقة الأمر واصلت مطالعاتها الذاتية التي امدتها بمعين لا ينضب استعانت به لنيل شهادة الثانوية العامة من المنازل، وفي مرحلة لاحقة عند إتمامها علومها الجامعية عن طريق الانتساب. من يقرأ بين سطور حوارات «ثاني» يرى، ولو بشكل ضبابي صورة الشيراوي عند بعض المنعطفات المفصلية من حياتها، وتمسكها بعنادها عند تلك المنعطفات.
نعود بعد ذلك إلى «غاية»، حيث تحاول الشيراوي هنا، ان تكرس بصدق صورة المرأة البحرينية في العقدين الرابع والخامس من القرن الماضي. تلك المرحلة الانتقالية من المجتمع التقليدي، المعتمد على الغوص، وصيد البحر والزراعة إلى المجتمع الذي أوجده اكتشاف النفط. «غاية» نورة امرأة مؤمنة بالله وقدره، لكنها لا تكف عن السعي لتغيير واقعها نحو الأفضل، دون كسر ذلك الإيمان او تجاوزه. لذلك نراها لا تكف عن تحدي «إعاقة» ابنها، وتصر على أن تأخذه إلى الهند، ولا تتردد في تأجير جزء من منزلها، واستعدادها لبيع ذلك النصف، متحدية بذلك قيم المجتمع التي تحاول ان تحرم على المرأة التصرف فيما تملكه. ولذلك نراها ترد بعنف على ابنها مشيرة بأن خاله لا يعدو كونه اخا، وليس زوجا لها، ومن ثم فهو لا يملك كلمة عليها. «غاية» هنا، وهي الأرملة العجوز تواجه الحياة، أيضاً، بعناد يقترب من عناد الشيراوي، مضافا إليه حرصها على أن تخرج من المعركة وهي منتصرة، وهو امر لا تؤكده الشيراوي حتى السطر الأخير من الكتاب، وكأنها تريد ان تقول لقارئها، انها هي الأخرى، لا تملك إجابة شافية عما إذا نجحت فيما تريد الوصول إليه ام أن أمامها هي الأخرى عتبات كثيرة أسوأ من تلك العتبة العالية التي كانت تأسر ابنها «ثاني» وتسجنه.
فإلى جانب فقدان البصر، هناك العوز المالي الذي يضطر «غاية» أن تقف مترددة عندما عرضت عليها أم شهاب ان تعمل لدى سيدتها موزة. تردد «غاية» كان مصدره خوفها ان «يعيقها العمل عن الوفاء بالتزاماتها تجاه ابنها المعاق «ثاني». تتولد لدى «غاية» هنا ازمة ذاتية، تسردها الشيراوي في حوار داخلي بين «غاية « ونفسها، وتصر الشيراوي على المحافظة على سريته (ص 169 - 172)، وكأنها توحي للقارئ بأن هذا الحوار الداخلي لايزال يستعر في داخلها هي عند معالجتها لأمور كثيرة شهدتها على مدى ما يزيد من خمسة قرون من حياتها. وأكثر اوجه التشابه بين شخصية «غاية» وشخصية نورة الشيراوي هو تلك الفقرة (ص 166) التي جاء فيها «كم أقسمت غاية بأنها لن تفكر، حتى مجرد التفكير، ولم تشك، حتى ثانية، في صلاح زوج العمة وتقواه، ولن تحاول الاعتراض على شيء، لولا مسألة بيع البيت، وإبعادها عن الفريج الذي هي بحاجة إلى أفراده، صغيرهم وكبيرهم... ولكن التفكير لم يكن سينصب على ما سوف تردده هذه المرأة الحانقة. ولكن التفكير في هذه المسئولية التي واجهتها تجاه أطفال...».
شخوص كثيرة مثل أم يوسف، ومريم البوحمود ممن أدخلتهم الشيراوي في «غاية»، وحاولت ان تحمل كل واحدة منهن شيئا من شخصيتها هي، التي لم تستطع أن ترسمها متكاملة في شخصية واحدة تجسد في نظرة واحدة رؤية نورة الشيراوي للحياة، بكل ما تحمله من قيم اجتماعية، وطقوس دينية. فجاءت الرواية صورة متكاملة للمجتمع البحريني في تلك الفترة كما رأته عينا نورة، وعكست الشخوص، كل واحد منها في خصلة معينة منها نورة الشيراوي، كما ارادت هي ان ترى نفسها في المرآة، على حقيقتها دون تشويهات مفروضة من الخارج.
وفي الختام، لاشك ان الشيراوي نجحت في ان تثير تلك الأسئلة، التي أوردناها في مطلع هذه المراجعة السريعة للرواية، وتطلب من القارئ ان يجيب عليها بنفسه، مما يجعله، كما فعلت أنا، يعود لقراءتها اكثر من مرتين
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2984 - السبت 06 نوفمبر 2010م الموافق 30 ذي القعدة 1431هـ
الأستاذة الكبيرة نوره الشيراوي ذاكرة تختزن التاريخ ... لقد كانت أمينة مكتبة في إحدى المدارس الثانوية
ولقد استفادت العديد من الطالبات من المخزون الثقافي والمعرفي التي تحمله ،،، إنها إحدى السيدات اللاتي يعملن في خدمة الوطن بقلمها الرائع الخلاق ودمتم بود \\ إيمان حجي أحمد كنكون