إن «الليبرالية»، أطول نظام سياسي تفتقت عنه الحضارة الجديدة عمراً، وأكثرها انسجاماً مع الطبيعة، لم يخل، كما سبق القول، من منافسين في ساحة الفكر ومجال العمل. فلقد نشأت إلى جانبه وعلى الضد منه مذاهب ومدارس ونحل أخرى اتخذها علماء السياسة موضوعاً لعلم مستقل، بعيداً عن الميول الفئوية، وأضافوا بذلك إلى خزانة العلوم الإنسانية آراء ومعارف شتى. ولا ريب أن دراسة تحقيقية جامعة عن السياسة لا يمكنها أن تغفل أياً من هذه الآراء والقوانين، لكنا في هذا المجال الضيق لا نسعى لاستقراء وجهات النظر العلمية، والميول المختلفة في باب السياسة ونقدها ودراستها، لأن عملاً بهذا الحجم يخرج عن سعة هذه المقالات. وإذ أطلنا الوقوف عند الليبرالية فلأن هذا النظام هو المعبر عن رؤية الحضارة الجديدة. وهذه الحضارة هي الغالبة في عصرنا والتعرف عليها واجب على كل شخص يهمه مصير إنسان اليوم والغد.
ليست الليبرالية وآثارها وتبعاتها الذهنية والعينية حادثاً عرضياً وقع اتفاقاً، فيمكن المرور دونه بسهولة ويسر، بل إن لها جذوراً ضاربة في عمق بيئة الإنسان الغربي الفكرية، وفي صلب حياته. وإذا كان الغرب هو الذي يسود العالم اليوم، فمن المستحيل إذاً التعرف إلى حيثيات هذا الفكر وفلسفة حياته في منأى من مفهومه للسياسة. ثم إن الليبرالية كنظام سياسي أمر واقع، والقول بوحدة جوهرها في الفكر والواقع، وثبات ماهيتها، منذ البداية حتى الآن، ليس زخرفاً من القول ولا هراء. وكذلك فليس من قبيل التخمين أو التقريب القول إن التغييرات الحاصلة في الفكر والواقع الغربيين بعد استقرارهما هي تغييرات طارئة وعرضية تماماً، وإن اختلاف المراحل بين ما كان في بداية العهد الجديد وما هو شائع وجار اليوم، باسم «الليبرالية» والنظام الليبرالي الديموقراطي، كاختلاف المراحل بين وليد عاجز ورجل مسن تجاوز الصعاب، وروض نفسه فاكتسب مرونة مثيرة للدهشة مع الظروف والأحوال، بل سخرها لصالحه أيضاً.
ربما ظن أتباع النظام الليبرالي الديمقراطي أن ما أفرزته التجربة الفكرية والعملية للغرب هو طريق الحل النهائي لمشكلة الإنسان الاجتماعية والسياسية، وأن أي تغيير إنما يجري في إطار السنة والسيرة الليبرالية، وعلى أساس المعايير والموازين المؤيدة من قبل هذا المذهب التي في طليعتها المرونة والتسامح والنسبية.
لكن ما يذهب إليه هؤلاء يشترط لصحته أن تكون الحضارة التي نشأ منها هذا المذهب آخر حلقة في سلسة الحضارات البشرية، وأن تكون روح الإنسان، خالق هذه الحضارة (أو تلك)، قمة الكمال الإنساني، والحال أن الأمر ليس كذلك.
فالتحول في حياة الإنسان وتبدل الحضارات المتواصل أمران محتومان، والفطرة السليمة البسيطة شاهدة على هذه الحتمية. وسينقضي العصر، وينساق الإنسان، في غمار رياح الحوادث، نحو آفاق غير مسبوقة من المستقبل سيكون عليه الحكم في ماهيتها وكيفيتها. وأضعف الإيمان عدم الشك في قطعية هذا الانقضاء، وأن حياة الإنسان والمجتمع البشري في هذا العالم محكومة بالتحول. وإذا كان التكهن في تحولات الحياة الآتية - التي من جملتها ما يرتبط بمجال السياسة - غير ميسور لنا، فإنه لا يقطع علينا طريق التوقع، بالاعتماد على العلم والمنطق، والعلائم والشواهد، والتجزئة والتحليل، فمن جملة وظائف العلم «التوقع» والتوقعات العلمية والمنطقية، وإن لم تتحقق بالكامل، تفتح كوى مضيئة للأذهان الباحثة عن حقيقة المستقبل.
الليبرالية واقعة مهمة في تاريخ الإنسان ومصيره، ولكن، لابد لدى دراسة هذا المذهب، أفكاراً وتجربة، لاسيما من قبل أهل العلم - لابد من الالتفات إلى مسألة مهمة جداً هي نسبية الليبرالية، فالنظر إلى الأمر النسبي على أنه مطلق آفة من آفات الفكر، وحائل دون السير نحو الحقيقة، وبسبب مصائب كثيرة في التاريخ البشري. وقد علمتنا تجربة الإنسان الغنية، إلى حكم العقل الفطري، أن نتجنب النظر الإطلاقي إلى شئون هذا العالم الفاني.
ومن الضروري، عند القيام بتقييم منصف لمراحل الفكر البشري، بما في ذلك على مستوى السياسة، توسيع دائرة الملاحظة بحيث لا تغفل فضيلة أو نقيصة بسبب من موقف مسبق من الفكر موضوع الدرس. وبعد ذلك نقسم العيوب والنقائص إلى ما هو جوهري وذاتي، وإلى ما هو عارض على الظاهرة.
فيما يخص السياسة أيضاً، فإن النقص والعيب ينشآن تارة من الرؤية التصورية، والطبيعة الذاتية لحضارة قامت السياسة منها، فيكون نقد السياسة عندها نقداً للحضارة تلك. وأخرى لا يكون النقص والعيب ناشئين من ذات المذهب والرؤية السياسية، وإنما من التطبيق الخاطئ للنظرية، بسبب سوء فهم المتولين والمتصدين للأمر، أو سوء قصدهم. وهذا بأجمعه يجب ملاحظته في دراسة الليبرالية أيضاً.
ولا ريب أن معرفة الليبرالية ومبانيها وآثارها أمر في غاية الأهمية بالنسبة إلينا - نحن الذين نعيش في ظل هيمنة هذا النظام. أما أسباب هذه الأهمية فلا تكاد تخفى على كل ذي نظر.
إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "العدد 2975 - الخميس 28 أكتوبر 2010م الموافق 20 ذي القعدة 1431هـ