لا يعني عنوان المقال أعلاه أن مسألة المياه في الشرق الأوسط ستكون ذات شأن مستقبلي، أي من الآن فصاعدا، ولم تكن لها الأهمية القصوى فيما سبق من بعض الحوادث، إذ يجب ألا ننسى أن العراق ليس فقط بلد «النفط بلا حدود»، ولكن أيضا بلد «المياه بلا حدود»! وإذا كان ظهور النفط في المنطقة العربية قد جعل منها أحد المحاور الساخنة للصراع الدولي خلال نصف قرن، فإن المياه العربية ليست بأقل خطورة من النفط، وستكون لها الأهمية القصوى في استراتيجيات العدو الصهيوني، ومن ورائها القوى الدولية.
للدلالة على خطورة هذا الموضوع، هذه بعض الأرقام المهمة التي أوردها عادل عبدالجليل بترجي في كتابه القيم (المياه حرب المستقبل):
- يبلغ معدل هطول الأمطار سنويا في المنطقة العربية بين 5 و45 ملليمترا، في حين أن هذا المعدل يرتفع بكثير في الدول الأخرى، وعلى سبيل المثال: فدولة مثل فرنسا، يبلغ معدل هطول الأمطار فيها سنويا بين 500 و2000 ملليمتر.
- تمثل الصحاري نحوا 43 في المئة من مساحة العالم العربي، وتشغل حوالي 600 مليون هكتار من جملة 1394 مليون هكتار.
- يقدر المخزون العالمي للمياه بحوالي 1368 مليار كيلومتر مكعب، منه حوالي 24 مليار كيلومتر مكعب مخزون المياه العذبة، أي أن نسبة المياه المالحة من المخزون العالمي هو حوالي 98 في المئة!
- يبلغ نصيب الفرد العربي من المخزون المائي نحو 1745 مترا مكعبا في السنة، بينما المعدل الآسيوي على سبيل المثال يبلغ 6700 متر مكعب.
- بصفة عامة، يفتقر العالم العربي إلى شبكات مياه كبيرة ومستديمة الجريان، إذ تعتبر أنهار النيل ودجلة والفرات حالات شاذة عن هذه القاعدة.
- أنهار النيل ودجلة والفرات - أهم أنهار الوطن العربي - تستمد مياهها من مصادر خارج الوطن العربي.
- يلاحظ ظاهرة عدم الاستثمار المناسب لمصادر المياه العربية، ففي العام 1985 تم استخدام 51 في المئة من كمية الموارد المتاحة، وارتفعت هذه النسبة إلى 87 في المئة العام 2000. ما يدل على أن استثمار المياه في العالم العربي يعاني أشد حالات الضعف مقارنة بالدول والأطراف الأخرى في العالم، بل في المنطقة أيضا «إسرائيل»!.
- إضافة إلى ذلك، فإن هناك أيضا إهدارا لحجم كبير من مصادر المياه. للتوضيح: فإن إجمالي كمية موارد نهر النيل هي 124 مليار متر مكعب من المياه سنويا، وتبلغ كمية الفاقد منه نحو 40 مليار متر مكعب!
- يلاحظ أيضا أن أربع دول عربية فقط، هي مصر والسودان وسورية والعراق، تستأثر بنحو نصف مصادر المياه العربية. والخطورة في الأمر أن توزيع مصادر المياه لا يعكس بالضرورة استفادة مماثلة لها. فالسودان لا يساهم في سلة الغذاء العربية بنسبة تتناسب مع هذه الكمية من المياه... وكذلك بالنسبة إلى مصر من حيث لم تتجاوز نسبة المزروع من أراضيها 4 في المئة من مساحتها !
نترك لغة الأرقام لنعود إلى واقعنا الحالي، ومدى علاقة هذا الواقع بمسألة المياه ضمن صراعنا المصيري مع العدو الصهيوني. لقد أدرك زعماء اليهود، منذ أواسط القرن التاسع عشر، أن تحقيق أهدافهم في تهجير ملايين اليهود إلى فلسطين لن يتم إلا بتوسيع السيطرة على أراضيها، وأن التوسع في استغلال الأراضي لن يتم إلا بتأمين كميات كافية من المياه لإروائها، وبالهيمنة الكاملة على مصادرها. ولقد أدت الصهيونية دورا مهما في تعيين الحدود السياسية لفلسطين في عهد الانتداب البريطاني، فأدخلت كثيرا من مصادر المياه داخل حدود الدويلة الصهيونية... بل انه في العام 1919، بعث زعيم الحركة الصهيونية حاييم وايزمن برسالة إلى رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج طالب فيه بضرورة أن يضم المشروع اليهودي في فلسطين كل من حوض نهر الليطاني، وجبل الشيخ الذي به منابع نهر الأردن واليرموك.
ومن المعروف اليوم، أن مصادر المياه في فلسطين المحتلة تكاد لا تسد الحاجات الحالية للدولة الصهيونية، فمسألة البحث عن مصادر إضافية مضمونة للمياه جزء من الاستراتيجية الصهيونية، وقد ذكرت صحيفة «هآرتس» في سنة 1978 أنه «إذا لم يجر عاجلا تطوير سريع للموارد المائية الموجودة، فسيحدث نقص بمقدار 400 إلى 450 مليون متر مكعب من المياه خلال العقد التالي، كنتيجة للزيادة في عدد السكان... ». وها هي «إسرائيل» اليوم تحاول أن تثبت قدميها في أرض الرافدين في ظل الاحتلال الأميركي، وها هي تحاول - مع حليفتها أميركا - ابتزاز سورية وإخراجها من حال الحرب إلى حال الاستسلام والخضوع، وهي الحال التي ستؤدي إلى موافقة سورية، حسب «خريطة الطريق»، على بدء المفاوضات الشرق أوسطية العامة لبحث مختلف القضايا، والتي ستكون المياه في مقدمتها، وها هي «إسرائيل» تقيم روابط استراتيجية مع تركيا، التي منها تنبع دجلة والفرات...
يا ترى، ألا يكفينا هذا الشعار الصهيوني الواضح، شعار (من النيل إلى الفرات)، كي نفطن إلى حقيقة نوايا العدو، ومدى اهتمامه بثرواتنا المائية؟
إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"العدد 297 - الأحد 29 يونيو 2003م الموافق 28 ربيع الثاني 1424هـ