حاولنا في المقالات الماضية استعراض بعض الأفكار والآراء التي ساهمت في صياغة الغرب السياسي. وما نصبو إليه هو أن يفتح ما قمنا به كوّة صغيرة ينظر منها إلى ما يعيشيه الغرب تحت أنظارنا. ولهذه الغاية نرى أن نتابع في ما يلي بعض ما لحق من تحولات بالفكر الليبرالي على نحو ما صاغه لوك.
لم تضف مساهمة لوك إلى المتراكم في خزانة الفكر الغربي فحسب، بل لقد أعانت شعوب الغرب على تمتين أسس الحرية، (بشتى معانيها وفي مختلف مجالاتها)، وعلى توطيد عمارة الحكومة الدستورية، أي تقنين امتلاك السلطة وممارستها. على هذا فلا يسعنا التغاضي عما نهض في وجه الرأسمالية والنظام الليبرالي الديموقراطي، مع استتبابهما، من أفكار فلسفية وسياسية وحركات اجتماعية لم تخلُ من ترك آثارها على مصير شعوب الغرب، بل شعوب العالم، ومن تنقيح الليبرالية نظرياً وعملياً.
الإيمان بمبدأ التجربة الذي يفترض التسليم بشهادة الحس سار بالفكر الغربي إلى طرفي نقيض. فمع جورج باركلي سار به إلى المثالية (Idealism)، ومع ديفيد هيوم إلى اللاأدرية (Agnosticism). وهكذا فالإنسان الغربي الذي رهن حياته بما تكتشفه العلوم التجريبية من قوانين وقواعد، وجد نفسه في ازمة مصيرية لا خروج له منها إلا بإنكار عالم المادة، أو التعامي عنه في أحسن الأحوال، أو بنفي أصل العلية والسقوط في حضيض الشك (Scepticism).
إن ركون معظم أهل الرأي والفكر في الغرب الحديث إلى التجربة والعلم التجريبي كآمن سبيل لتحصيل المعرفة والانتفاع بها، عبر تسخير الطبيعة والهيمنة عليها، وأقربه إلى الرفاه والتمتع المادي، حقر العقل المجرد والفلسفة العقلية، وكان من عواقبه هزات ذهنية وروحية عنيفة. فعندما يحقر العقل فإن التجربة نفسها تفقد أساس اعتبارها أيضاً. وإلى هذا السبب مرجوع الأزمة التي عصفت بالفكر الغربي في القرن التاسع عشر.
لقد فاقم من اضطراب الحالة الفكرية، عشية القرن التاسع عشر، ما بذله الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط (1724-1804م)، من سعي إلى الخروج من حالة الاضطراب تلك، وإنقاذ الأخلاق والدين بالجملة؛ ذلك أن سعيه أربك محاولات العقل في استعادة منزلته عوض دفعها قدماً.
كذلك يمكن القول إن القرن التاسع عشر هو قرن السعي لتوجيه العالم، وإعادة الاعتبار للفلسفة وللفكر البشري. ولا يسعنا في هذا الباب التغاضي عن الدور الكبير الذي قام به هيغل (1770-1821م) في هذا المجال، لاسيما أن المنظومة الفكرية الفارهة التي تدين بها الفلسفة لهذا الفيلسوف قد تركت بصماتها، لا في مجال الفكر الفلسفي المحض فحسب، بل في مجال الحياة الاجتماعية للغرب أولاً، ليعمّ البشرية جمعاء في مرحلة لاحقة.
لم يذهب هيغل، خلافاً لـ «مادية» كثير من المصلحين و»تجريبيتهم»، إلى إنكار «المادة» بل اعتبرها أمراً عقلياً، وأحل «العقل» في محل غدت معه «المادة» و»الطبيعة» مظهرين له فقط. فعقل هيغل حقيقة تتجلى على طول مسار جدلي بهيئة صور منها الطبيعة والروح.
لم يكن إحياء «العقل» من قبل هيغل - الذي تجدر الإشارة إلى أن عقله يختلف كل الاختلاف عن العقل القديم، وعقل العصور الوسطى - لم يكن سعياً فردياً لإنقاذ الفكر الغربي من الاضطراب الذي ألحقه به التوجه الحسي والتجريبي المفرط، ففي الضفة الأخرى كان أوغست كونت يحاول جاهداً إيجاد نظام فلسفي منسجم يستند على العلم والتجربة. ورغم الاختلاف الأساسي والجوهري بين هيغل وكونت، فإن فكر هذين الفيلسوفين يمكن أن يعد تعبيراً عن نمطين من رد الفعل إزاء الأزمة، ووجهين لمحاولة إنقاذ حضارة الغرب من التهلكة الفكرية التي أدى إليها ترجحها بين الشك واللاأدرية. ولكن أوليس شيوع الشك واللاأدرية من علائم عبور مجتمع بشري ما من حضارة آفلة إلى حضارة جديدة.
واجه الغرب في القرن التاسع عشر أزمة اجتماعية، إلى ما جئنا على ذكره من أزمة فكرية. فالرأسمالية والنظام الليبرالي الديمقراطي حققا إنجازات عظيمة للطبقة الوسطى في أوروبا، ولكنهما لم يستطيعا أن يلبيا عملياً احتياجات الجميع وانتظاراتهم... وقد تعمقت الهوة حتى أصبح القرن التاسع عشر قرن ازدهار الرأسمالية من ناحية، والقرن الذي كشف أن ميراث الثورة الاجتماعية والسياسية والصناعية لم يتوزع سواسية على الجميع، بل استأثرت به فئة من الأثرياء ومن محدثي الثروة، في حين انحدرت الطبقة الكادحة صوب مزيد من الفقر والحرمان، وبدا جلياً الوجه الاسترقاقي للاستعمار.
أدى هذا الوضع إلى ظهور شكوك جدية بالأسس الفكرية والمعنوية للنظام الليبرالي الديموقراطي في الغرب، وإلى نشوء حركات سياسية اجتماعية جديدة ذات أهداف تتعارض مع ما كان أنصار النظام الليبرالي الديموقراطي يدعون إليه.
يصور رسل في تاريخ فلسفة الغرب ما يمكن، مع قطع النظر عن بعض التعابير الجارحة الواردة فيه، أن يعتبر صورة مصغرة لكن معبرة عن هذه الفترة التاريخية؛ يقول: «رغم أن كثيراً من الناس مايزالون يعتقدون، بصدق، بالمساواة بين البشر وبالديموقراطية النظرية، فإن سلوكات الناس باتت متأثرة جداً بالنظام الاجتماعي الناشئ من النظام الصناعي اللاديموقراطي أصلاً. فأرباب المشاريع الصناعية والمعامل يقفون في جهة، وجماهير العمال في جهة أخرى. ومازال الكثير من أبناء الدول الديموقراطية في غفلة من هذا الواقع رغم أن الفكر الفلسفي من عهد هيغل قد انشغل بهذا الواقع، وقد ظهر التضاد الشديد الذي أقلق هؤلاء - بين مصالح الأكثرية الساحقة والأقلية الضئيلة في الفاشية. وفي الفلاسفة من وقف بصلف إلى جانب الأقلية - (...) كما وُجد من وقف إلى جانب الأكثرية. ولعل بنتام هو الفيلسوف الوحيد الذي حاول المصالحة بين المصالح المتضاربة مما أثار عداء كلا الطرفين عليه».
وعن الشك بالليبرالية تفتقت الأفكار الجماعية المضادة للفردية بالمعنى الليبرالي الرأسمالي المتطرف، والتي دار النقاش النظري والاجتماعي لحين من الزمن تحت عناوينها، ولكن يبقى أن هذا السجال لم يخرج عن الإطار الليبرالي العام.
بخلافها، قامت «الاشتراكية العلمية» على أساس من العلم والمنطق، وشكلت منافسة حقيقية للرأسمالية وصورتها السياسية المتمثلة بالنظام الليبرالي الديموقراطي. ولقد أعقب اشتراكية ماركس - تابع هيغل والمدين له في أفكاره الفلسفية أكثر من الآخرين - ظهور حركات اجتماعية واسعة، واستمر الأمر على هذه الحال حتى أوائل القرن العشرين، حيث أظهر في خضم الحرب العالمية الأولى نظام يتبنى الاشتراكية فلسفة. وكان ظهور هذا النظام من علائم أزمة العالم الرأسمالي.
نظام القطبين، وإن زال بانهيار معسكر الشرق الاشتراكي، فإن آثار الاشتراكية وبقاياها، سواء بصورة أنظمة شيوعية أو مفاهيم وعقائد اشتراكية، مازالت موجودة في أذهان كثير من أهل الرأي الغربيين وغير الغربيين، كما أنها موجودة على هيئة أحزاب وجماعات سياسية أيضاً. وغني عن القول أن الاشتراكية - التي كان يجب، وفقاً لادعاء مؤسسيها، أن تظهر بمقتضى حتمية التاريخ، وبحسب السياق الدياليكتيكي، في قلب أكثر الأنظمة الصناعية الرأسمالية - ظهرت عوضاً عن ذلك في المجتمعالت الآسيوية والأوروبية والأميركية المتخلفة، بهمة الفئات الحزبية والسياسية وبقيادة مثقفين (غير بروليتاريين)، وتمكنت من الدوام، لا بفضل حماية الطبقة العاملة التي استيقظت بل بدعم أعظم الأجهزة الأمنية والمخابراتية وأعتى المؤسسات العسكرية، وأوسع الوسائل التبليغية. وهي وإن لم تتمكن أن توصل جمهور الناس الخاضعين لسلطتها إلى الهدف الذي رفعته شعاراتها، فلقد استطاعت أن تستقطب إليها ملايين المعذبين في العالم. والحق أن الشعارات الثورية المؤملة التي نادت بها الاشتراكية هي ما جذب إليها فئات واسعة من الأمم المحرومة الباحثة عن هويتها المسحوقة، وكرامتها الجريحة، وثرواتها المنهوبة، أكثر من سلامة منطقها واستحكام أسسها النظرية واستقامة طريقها.
لكن هذه الجاذبية لم تدم طويلاً، فسرعان ما انهار قصر الوهم الشيوعي تحت أنظار العالم المبهوتة، لاسيما أنظار المحرومين الذين مازال طنين شعارات الاشتراكيين الخلاصية يقرع آذان قلوبهم.
ما أجده جديراً بالقول في هذه الإشارة المقتضبة هو أن الاشتراكية، وإن لم تنتصر في مال التطبيق، فإليها تدين الرأسمالية الليبرالية بأنها عادت إلى صوابها، ذلك أن الاشتراكية اضطرتها إلى إعادة النظر في بعض موازينها، وإصلاح الكثير من مبانيها، سواء ضمن الحدود الوطنية للأنظمة العربية الآخذة بالليبرالية الديموقراطية أو في الساحة العالمية، وإن يكن من اللغو ليس إلا أن نعتبر أن جميع التحولات التي حدثت عقيب الحربين العالميتين في فكر وواقع السياسة الغربية مردها إلى الاشتراكية، وأن نغض الطرف عن دور العوامل الأخرى التي من جملتها النمو الطبيعي للفكر، والتراكم الحتمي لتجارب الإنسان الذي منه الإنسان الغربي، وإعادة النظر المستمرة له في النظام الذهني، ونظام الحياة المتسارع مقدار ابتعاد الإنسان أكثر من «المطلق». وكذا دور الصحوة المتنامية والحتمية للشعوب المحرومة في هذه التحولات والتقلبات، والخلاصة أن سهم الاشتراكية في هذه التحولات إن لم يكن الأول فلا أقل من أنه من جملة السهام.
إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "العدد 2968 - الخميس 21 أكتوبر 2010م الموافق 13 ذي القعدة 1431هـ