تنساب على المسرح كورقة خريف تعوم على صفحة بحيرة هادئة، تتقدم في تناغم وانسجام مع كل شيء من حولها، ولا يبدو على وجهها إلا براءة البدايات، وما أن تبدأ بالغناء حتى يقف الجميع مصفقاً لها، فتحجب أيديهم ضآلة حجمها عن الكاميرات... تستمرُّ نجمة (السوبرانو) ذات السنوات العشر، وهي تصدح بصوتها المُذْهِل في برنامج (أميركا لديها مواهب)، دون أن تعاني من رُهاب المسرح، ودون أن تغادر البسمة وجهها الضحوك.
جاكي إيفانكو، هي إحدى أفضل المواهب الغنائية في مجال الأوبرا في العالم، ليس لسنّها الصغير فقط، ولكن لصوتها الذي أبهرت به كل من سمعه، وعلى الرغم من أنها لم تفُز بالجائزة الكبرى في البرنامج، إلا أنها أصبحت نجمة عالمية منذ أول ظهور لها، فانهالت عليها عروض تجارية وإعلامية من كل مكان، واستضافها (جاي لينو) في برنامجه المسائي، وأجلسها أمامه على «نفس» الكرسي الذي جلس عليه باراك أوباما.
قد نختلف وقد نتفق مع المواهب التي تظهر على هذا البرنامج الذي وصلت شهرته الآفاق، إلا أننا نتفق، شئنا أم أبينا، مع ثقافة احتضان المواهب وتشجيعها على الإبداع، التي يتميز بها المجتمع الأميركي على وجه الخصوص. ففي ذلك المجتمع المتنوع، تُعتبر الموهبة إحدى بديهيات الحياة فيه، فهو مجتمع يدرك أفراده وقادته أن وجود المبدعين وانتشارهم في مختلف المجالات هو تعضيد لأسسه وتقوية لركائزه الحضارية، لذلك تتميز ثقافة المجتمع الأميركي وتركيبته الاقتصادية والاجتماعية بأنها قائمة على صناعة الإبداع، فتجد معظم أنشطة المؤسسات والجمعيات والجامعات وشركات التكنولوجيا وكل شيء هناك يدور في فلك الإبداع، وتجد المستثمر وأستاذ الجامعة ومدير الشركة، كلهم يبحثون عن المبدعين ويقتنصونهم.
إن المجتمعات التي تتعامل مع الإبداع كقضية رئيسية ومطلب حيوي هي المجتمعات التي تَزِنُ كل شيء بالمعرفة، فالجهل والإحباط صِنوان يعزّز كل منهما الآخر، كما هو حال بعض مجتمعات العالم الثالث التي تعتبر الإبداع مضيعة للوقت أحياناً، أو أمراً مُحرّماً في أحيانٍ أخرى. فعندما يحاول أحد أفراد هذه المجتمعات (الخروج عن المألوف)، وهو اصطلاح للإبداع لدى البعض، والقيام بعمل متميز، فإنه قد لا يجد البيئة التي تحتضن هذا الإبداع، وقد يجد توبيخاً وتحبيطاً ممن يحيطون به، وإن حاول الاستمرار في تنمية موهبته وصقلها فإنه قد لا يجد معهداً أو مدرّباً يعينه عليها، فيضطر إلى التخلي عن حياته الحقيقية، ويَلزم الخمول طوال الوقت، فتصبح حينها أيامه كلّها متشابهة، وحين تتشابه أيامك، فاعلم أنها قارَبَتْ على الانتهاء.
إن ثقافة التحطيم والإحباط التي تعاني منها بعض مجتمعاتنا مصدرها الجهل، ولا أقصد بالجهل هنا أي المعنى المقابل للمعرفة فقط، ولكن الجهل بأهمية المبدعين ودور الموهوبين في صناعة تنمية حضارية لأي مجتمع. فلا يكاد يظهر أحد المبدعين على التلفاز حتى تتلقّفه ألسنة الحاقدين وضعاف العُقول الذين لا تتسع مداركهم الضيقة لاستيعابه، ولذلك فإنهم يريدون لكل الناس أن يبقوا في نفس مستوى الجهل الذي ترتع فيه عقولهم حتى يشعروا بالطمأنينة. هؤلاء لا يبحثون إلا عن الأخطاء، ولا يقفون إلا على مناطق التقصير والثغرات التي لا تكاد تُذْكَر لدى المبدعين والموهوبين، ليكيلوا عليهم سياط نقدهم اللاذعة التي لا تصيب الآراء أو الأعمال كما هو معروف عن النقد البناء، ولكنها تصيب الأشخاص أنفسهم مسببة لهم عاهات نفسية وفكرية.
إن جاكي إيفانكو مجرّد مثال لأفراد نشأوا في بيئة منحتهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم، دون تجاهل أو إهانات، ودون تحطيم للأمنيات، فكم مرة رأينا في تلك المجتمعات أُمّاً جالسة على ركبتيها لكي تكون في مستوى طفلها، فتنظر في عينيه وتصغي له باهتمام وهو يحدّثها؟ ولكنّ شتّان أيضاً بين برامج جادّة في البحث عن الإبداع، وبين برامج لا تعدو كونها تسلية مبتذلة وبذيئة تبثّها بعض قنواتنا العربية.
إن أكبر مقيّد للحريات الإنسانية وللإبداع الفكري هي المجتمعات الرّجعية والمتعصبة، ففي تلك المجتمعات، يتردد المبدع ألف مرة قبل إظهار موهبته خشية من غضب المجتمع ومن مخالفة أعرافه وقوانينه التي لا تمت بعضها للحضارة بصلة، ليتحول الإنسان من مخلوق حر مبدع، إلى عبد للمجتمع، متّبع لتعاليمه لا مبتدع لمهاراته. لا يفتقد بعض شبابنا ومبدعينا إلى القُدُرات والمواهب، ولكنهم يفتقدون إلى الثقة التي سلبتها منهم بيئتهم المثّبطة للعزائم، فقديماً قيل: «المواهب أشبه بالزهور، تحتاج إلى النسمة والشمس لتزدهر وتنمو، ولكنها تموت في الحجرات المظلمة».
المجتمعات الحية والحضارية هي تلك التي تُمدّ المواهب بالثقة وتمنحها الفرصة لكي تحقق ذاتها، وهي التي توجد الجوائز والبرامج والمشاريع المحفّزة، في المدرسة وفي البيت وفي الجامعة وفي العمل، فلا يضطر الموهوب للانتظار حتى يُرَدّ إلى أرذل العمر لكي يحصل على فرصته، وليس عليه أن يموت لكي يحتفي به الناس وتُقدّر موهبته.
المبدعون لا يُبهروننا فقط، ولكنهم يمنحوننا الأمل، ويُجددون الطاقات المكبوتة بداخلنا، فهُم الشموع التي تُبدد الظلام ولا تلعنه، إنهم كقوس قزح الذي تتلألأ ألوانه عندما يتّحد النور مع المطر، فالنور هو المجتمع، والمطر هو الحُريّة، والمبدع الحقيقي هو الذي لا يعتريه الخوف أو التردد، فأسوأ أنواع الخوف هو خوف الإنسان من ذاته.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 2962 - الجمعة 15 أكتوبر 2010م الموافق 07 ذي القعدة 1431هـ
الإبــــــداع الرســالي ... اللامــــــع
" أنت في تقدّم عندما تعرف من أنت " اعتراف ينبع من الذات ، والإنسان - المبدع - يستطيع أن يتغلّب على نقاط الضعف في طبيعته حين يريد ، ويعزم أن يريد ، ويتابع ما يريد ، فالسير قدماً إلى الأمام ، دوماً إلى الأمام ( على الرغم من العراقيل) ، وبذلك يكون من صانعي الإبداع و لا ينتظر أن يباغته فيكون من أدواته . كل الشكر للكاتب وللوسط ... نهوض
المجتمعات الحية والحضارية هي تلك التي تُمدّ المواهب بالثقة وتمنحها الفرصة لكي تحقق ذاتها،
إن أكبر مقيّد للحريات الإنسانية وللإبداع الفكري هي المجتمعات الرّجعية والمتعصبة، ففي تلك المجتمعات، يتردد المبدع ألف مرة قبل إظهار موهبته خشية من غضب المجتمع ومن مخالفة أعرافه وقوانينه التي لا تمت بعضها للحضارة بصلة، ليتحول الإنسان من مخلوق حر مبدع، إلى عبد للمجتمع، متّبع لتعاليمه لا مبتدع لمهاراته.
المجتمعات الحية والحضارية هي تلك التي تُمدّ المواهب بالثقة وتمنحها الفرصة لكي تحقق ذاتها، وهي التي توجد الجوائز والبرامج والمشاريع المحفّزة، في المدرسة وفي البيت وفي الجامعة وفي العمل
شباب موهوبين و مبدعين بالفطرة
وكم من موهوب و مبدع عندنا في القرى يخشى إضهار موهبته في الغناء او الموسيقى او التمثيل للعلن بسبب الخوف من العائلة و المجتمع.