تمثل سنغافورة نموذجاً من النماذج الفريدة للتطور السياسي والاقتصادي. فهي دولة ديمقراطية تتسم بخصائص غير ديمقراطية لأنها محكومة بالحزب الواحد بوجه عام. وهو حزب مسيطر وغيره من الأحزاب غير ذات وزن، وهي محكومة بالفكر الواحد فكر «لي كوان يو» الذي مازال يحمل لقب رئيس الوزراء الأقدم وهو باختصار الأب الروحي للنموذج السنغافوري، ورغم عدم توليه منصباً رسمياً فهو حاضر دائماً بدوره وفكره، ويكاد يقترب من حالة الزعماء ذوي المرجعية الروحية الفاعلة (وليس مثل مانديلا الذي تخلى تماماً وأصبح تأثيره أدبياً)، وإنما «لي كوانج يو» على غرار «دنج سياوبنج» في الصين الذي ظل مرجعية إلى أن توفاه الله.
ونتساءل ما هي عناصر النموذج السنغافوري. لقد كانت سنغافورة إثر الاستقلال دولة تنتمي للعالم الثالث فهي بلا موارد، وهي دولة جزيرة، وصغيرة، فتوصلت قريحة «لي كوان يو» إلى عدد من الركائز نلخصها في التالي:
الأول: خاص بالسكان (2 مليون عند الاستقلال أصبحوا 5 مليون تقريباً الآن 2010) والمكون الديمغرافي ثلاثي الأبعاد أغلبية من أصول صينية، أقلية من المالاي (أصول ماليزية) وأقلية من أصول (هندية). وفي الإطار الديني هناك بوذيون ومسلمون وهندوس ومسيحيون. وهناك لغات الأعراق، ومن ثم كان الحل أن يكون العمل السياسي على أساس المواطنة، واستبعاد العناصر الأربعة التي تثير الاختلاف والصراع وهي العرق، الدين، اللغة، الطائفة.
الثاني: خاص بالسلطة السياسية أي الالتجاء لإجراء انتخابات حرة والحزب الفائز يحكم، ولكن الحزب هو عملياً حزب وحيد، والزعيم هو واحد، إذن السلطة للحرب والزعيم، والآخرون يعملون في إطار الفلسفة الموحدة الجديدة بعيداً عن قوى الانقسام. ويمكن أن يوصف النظام السنغافوري بأنه ديمقراطية في إطار شمولي أو شمولية في إطار ديمقراطي.
الثالث: العمل أو النمو الاقتصادي اعتمد: اقتصاد الخدمات واقتصاد السوق من خدمات الطيران والملاحة، ومن ثم تحولت سنغافورة عملياً إلى دولة مطار، ودولة ميناء، ودولة سوق حرة، وهذا حقق لها أعلى معدلات النمو طوال الخمسين سنة الماضية أي منذ الستينيات في القرن العشرين.
الرابع: الارتباط الفعلي بالسياسة الأميركية خاصة والغربية عامة في ظل الانقسام الدولي الحاد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وقيام الحرب الباردة. ولكن مع الحفاظ على قدر من هامش الحركة المستقلة، ولذلك انضمت سنغافورة لحركة عدم الانحياز ولمجموعة الـ 77. وشكلت في فترة نشاط عدم الانحياز تجمعاً ذا توجه غربي أو بالأحرى معتدل أطلق عليه «مجموعة الدول ذات الفكر المتشابه Like-minded Countries».
الخامس: الوضوح في الرؤية الإستراتيجية وفي التعامل مع القوى الكبرى المحيطة بها مثل اليابان أو الصين أو ماليزيا أو إندونيسيا أو تايلاند. وهذه الإستراتيجية تعتمد على:
- رفض التدخل في الشئون الداخلية السنغافورية من القوى الأخرى.
- رفض ارتباط روحي أو سياسي أو عقيدي بين أصحاب الأعراق والأديان في بلادها مع أية قوة دولية أخرى.
- رفض بناء مساجد أو دور عبادة أو أحزاب أو مؤسسات ثقافية أو غيرها بتمويل خارجي.
- البعد عن الصراعات الإقليمية والدولية وعدم الانغماس أو التورط في أي منها.
- فصل الاقتصاد والتجارة عن السياسة وفصل السياسة عن الدين أو العرق أو اللغة.
- احترام التنوع العرقي واللغوي والديني في الإطار الثقافي أو الشعائري الخاص بكل منها.
- ابتعاد الدولة عن العمل الاقتصادي المباشر، وإنما وضع الأطر والأنظمة واللوائح والقوانين وتطبيقها، وعلى جميع المواطنين البحث عن الوظائف وممارسة النشاط الاقتصادي.
السؤال هل النموذج السنغافوري قابل للتكرار؟ أو هل هو قابل للنقل والاستنساخ؟
الإجابة على ذلك ليست سهلة، ولكن السنغافوريين يرون أن لكل دولة ظروفها وتجربتها وتراثها وثقافتها. ومن ثم فإن النموذج السنغافوري غير قابلاً للاستنساخ، ولكن يمكن أن يكون قابل للاستفادة منه وأخذ بعض عناصر ومقوماته.
وهنا يثار التساؤل، ما هي العناصر القابلة للاستفادة منها؟ وكيف؟
وفي تقدير أن العناصر التي يمكن الاستفادة منها تتمثل في الآتي:
الأول: مفهوم الزعيم الكارزماتي المتجرد عن المصالح والطموحات الشخصية أو السياسية القاصر في نشاطه على حدود دولته. هذا النموذج الكارزماتي السنغافوري يختلف عن نظيره لدينا في المنطقة العربية، إذ إن معظم الشخصيات الكارزماتية التي ظهرت في المنطقة العربية والشرق أوسطية تتطلع للوحدة أو الاندماج أو التأثير خارج حدودها، ومن ثم سرعان ما تتكالب عليها القوى الوطنية من الدول الأخرى في المنطقة أو من خارجها، ومن ثم تضربها وتقضي عليها، وربما تعيدها لسنوات طويلة من الماضي، وهذا ما حدث في أكثر من دولة عربية دون حاجة لذكر الأسماء. أما النموذج السنغافوري فقد اعتمد مبدأ الاعتماد على النفس والانكفاء على الذات بدون أي طموحات للانطلاق للخارج بفرض التوسع والامتداد والنفوذ.
الثاني: الحفاظ على الحياد الفعلي De Facto في الصراعات الدولية والإقليمية، فلم تتورط سنغافورة في حرب فيتنام في الستينيات والسبعينيات، ولم تتورط في صراع مع أي من الدول المجاورة، ولم تبدِ أية طموحات لذلك بالانحياز إلى أي طرف. والتساؤل هل هذا ممكن عربياً؟ أشك في ذلك لأن سنغافورة جزيرة وصغيرة، وحدث تفاهم ضمني إقليمي، وحماية دولية أميركية لها، ومن ثم أصبحت من هذه الزاوية أقرب - وإن لم يكن بصورة كاملة - لنموذج سويسرا في أوروبا،
أو نموذج فنلندا بين الكتلتين، أو نموذج السويد مع بعض الاختلافات في التفاصيل. وهذا نموذج يصعب تصور قيامه في المنطقة العربية، وقد سعت دولة عربية نحو هذا النموذج، وأخفقت ووقعت فريسة دول الجوار القريب والبعيدة، ونظامها الآن مرهون بإرادة قوى خارجية.
الثالث: مفهوم استبعاد الدين والعرق واللغة عن السياسة، والعمل بمفهوم المواطنة الواحدة. هل هذا ممكن في المنطقة العربية في ظل تراثها وثقافتها، ومرجعياتها الدينية والطائفية، وانتشار أماكنها المقدسة، وبروز قيادات دينية ومذاهب دينية، لها جذورها، ولها بريقها، ولها نشاطها، ويسعى كل منها لتحقيق نموذجها السياسي الديني، إن ذلك أكبر مصادر نجاح سنغافورة، وأكبر عناصر ضعف بل وإضعاف وتدهور ليس المنطقة العربية بل والحضارة الإسلامية برمتها، منذ الصراع على السلطة بين أتباع الدين الواحد وانقسامهم، وهو صراع كان أكثر قسوة وعنفاً فيما بينهم، مما كان بين المسلمين وغير المسلمين، الذي ساده درجة أكبر من التسامح. وللأسف لم يتوصل المسلمون لكلمة سواء فيما بينهم في السياسة بأبعادها عن الدين، ولا في المذاهب يرفض الولوج في عقائد وفكر المذاهب الأخرى، وتبادل الخلافات فيما بينها. ولعل ذلك ما دفع بعض المفكرين الإسلاميين لرفع شعار «إسلام بلا مذاهب» وهو شعار جيد، ولكنه صعب التحقيق لعمق الخلاف اللاهوتي، إذا جاز استخدام هذا التعبير، ولمصالح رجال اللاهوت والكنهوت وأيضاً مصالح الناسوت (أي رجال الدين ورجال السياسة).
الرابع: عنصر ابتعاد الدولة عن الرعاية الاقتصادية للمواطن فهي غير مسئولة عن المعاشات التقاعدية أو عن توفير الوظائف، وإنما فقط وضع الأطر واللوائح والتنظيمات، وعلى المواطن أن يعمل بنفسه، ويبحث عن وظيفة أو عمل حر في الأنشطة الاقتصادية. وهذا في ظل مفهوم الدولة الريعية في الخليج أو مخلفات الدولة الاشتراكية في الدول العربية الأخرى، من الصعب تصور تحقيقه بسهولة، وإن كان يجري تحقيقه جزئياً في ظل انتقادات متعددة.
الخامس: عنصر الحرية الاقتصادية: أي حرية النشاط الاقتصادي بما يقربنا من فكر آدم سميث وريكادرو وغيرهما من أصحاب المدرسة الكلاسيكية التي تقوم على مفهوم «دعه يعمل دعه يمر» (Laissez Faire Laissez Passer) وأن مصلحة الدولة سوف تتحقق من خلال تحقيق مصلحة الرأسمالي، بالطبع هذا النموذج يمكن أن يتحقق في دولة صغيرة، ويرتبط هذا المبدأ بقواعد وضوابط قانونية تحول دون الفساد بأنواعه، ودون بروز مفاهيم الاحتكار، وإلا أخفق النموذج، فلابد من تعديله، كما حدث في أوروبا وأميركا، بظهور مفاهيم الضرائب التصاعدية والعدالة الاجتماعية أو ما أطلق عليه الرأسمالية الذكية، والسؤال بالنسبة للمنطقة العربية هل يمكن أن يتحقق ذلك؟ إن معظم النماذج العربية الرأسمالية لم تظهر ميلاً حقيقياً نحو مقاومة الفساد، أو احترام القواعد القانونية والضوابط الاقتصادية، وسيطرة مفاهيم الاحتكار بأكثر مما ظهرت وتوطدت مفاهيم المنافسة، وساد اقتصاد السمسرة بأكثر من الاقتصاد الإنتاجي أو الاقتصادي المعرفي، ففي الفترات الاشتراكية في بعض الدول العربية اتهمت بأنه سيطر عليها عدالة توزيع الفقر بوجه عام أي عدالة التوزيع بأكثر من مفهوم الإضافة للإنتاج. وفي الدول الرأسمالية العربية سادتها مفاهيم الرأسمالية المتوحشة، وفي بعض الدول الريعية مانزال نجد ملايين تحت خط الفقر ولو النسبي.
السادس: عنصر الموارد البشرية، كما يذكر المثقفون من سنغافورة، إن دولتهم محدودة الموارد، ومحدودة السكان، إذن المنهج الأسلم هو رفع قدرة الموارد البشرية من خلال التعليم المتميز، ومن خلال الحافز الاقتصادي، ومن خلال الضوابط القانونية والسياسية في فلسفة الثواب والعقاب بلا هوادة ولا تساهل، ومن ثم أصبحت الموارد البشرية السنغافورية من أكثر العناصر تميزاً وإنتاجية مقارنة حتى بالدول المتقدمة.
السابع: شجاعة الاعتراف بالخطأ والسرعة في إصلاحه، لقد واجهت سنغافورة الأزمة المالية الآسيوية 1997، كما واجهت الأزمة المالية 2007، ولكنها سرعان ما تغلبت عليها بمجموعة من السياسات التنشيطية وبالتقشف، ولذا من المتوقع أن تحقق هذا العام 2010 معدل نمو 13 في المئة. الاقتصاد يقوم على: الموارد البشرية، اقتصاد الخدمات، اقتصاد المعرفة.
تلك عناصر التجربة السنغافورية أعتقد أن كل مسئول سياسي أو اقتصادي أو مثقف أو رجل دين، ينبغي عليه التفكير في تلك العناصر، والاستفادة منها بدلاً من الدوران في حلقات مفرغة وصراعات ومشاحنات حول المفاهيم والسياسات والنماذج والماضي والأصالة والمعاصرة. إن اتخاذ القرار الحازم والرؤية الحقيقية والتطبيق الأمين لها، والبعد عن الصراعات الإقليمية والدولية، وعن الطموحات السياسية نحو الخارج أو نزعات التوسع والسيطرة الإقليمية، ربما تكون بعض مزايا تجربة سنغافورة ونموذجها السياسي والاقتصادي والثقافي.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2960 - الأربعاء 13 أكتوبر 2010م الموافق 05 ذي القعدة 1431هـ
مقال مهم
انا ادرس في شرق اسيا والتقيت بطلاب من جميع انحاء العالم، ووجدت ان سنغافورة متميزة خصوصا في مواردها البشرية. مقال مهم وعلى الساسة والمعارضة في البحرين التفكير الجدي
المنوذج الصغير
أذكر خلال زيارتي لي لسنغافورة سألت احد المسئولين كيف يمكنكم بناء محرقة نفايات كل ثلاث سنوات وإقامة جزر صغيرة بالرماد كل 5 سنوات.الجذير بالذكر سنغافورة تعتمد على مبدء zero waste في إدارة الفايات. اتعرفون ماذا كان الجواب؟؟ بالمال. وهل يوجد لديكم مال كثير؟ نعم لانه لايوجد عندنا فساد كبير.