عندما عاد ستيف جوبز، المدير التنفيذي الحالي لشركة آبل، للعمل في الشركة العام 1996 بعد أن هجرها لأكثر من عشر سنوات، لم تكن آبل في وضع تحسد عليه، وكانت الآمال معلّقة على ستيف لكي يعيد إليها شيئاً من زخمها المعهود. فلقد ساهم ستيف في اختراع الكمبيوتر الشخصي في السبعينيات من القرن الماضي، وفي الثمانينيات استخدم ستيف الفأرة في الكمبيوتر الشخصي، واستبدل نظام الكمبيوتر، القائم آنذاك على إدخال أوامر مكتوبة في شاشة سوداء، بنظام يتميّز بالصور والأيقونات بحيث لا يحتاج إلى إدخال أية أوامر، وأصبح يكفي المستخدم أن يضغط على فأرة صغيرة، لتقوم بجميع المهام التي يرغب بها، وكانت تلك نقلة نوعية لشركة آبل وعالم التكنولوجيا بشكل عام. وعندما أصبح ستيف المدير التنفيذي لآبل العام 1998، طرح جهاز «آي ماك» الذي يتميز بشكله الأنيق وفعاليته العالية وبساطة استخدامه، لتعود الروح مجدداً إلى آبل، وفي أوائل الألفية، طرح جهاز «آي بود» الذي بيع منه أكثر من 260 مليون جهاز، وكان حجر الزاوية الذي أقام صرح آبل الآيل للسقوط.
إن ما قدّمه ستيف لآبل وللعالم هو مفهوم «البساطة» ولكن بشكل جديد، فالكمبيوتر الشخصي كان نسخة مبسّطة من جهاز الكمبيوتر العملاق آنذاك، والفأرة كانت نسخة مبسطة من نظام إدخال الأوامر المكتوبة، والـ «آي بود» كان نسخة مبسطة ومصغّرة أيضاً، لكل ما تريد شركة آبل أن تقدمه للإنسان. وفي خضم هذا التبسيط اللامتناهي، يجد كل شخص جُلّ ما يحتاج إليه، بدءاً بدولار واحد.
إن المذهب الذي يتبعه، أو ربّما أنشأه ستيف جوبز هو مذهب «الصِّفْريّة» ويعني تقديم أكبر عدد من الخدمات في أصغر حيّز ممكن، وبأبسط الطرق المتاحة وغير المتاحة، ثم اعتنق هذا المذهب كثير من شركات التكنولوجيا والشحن والاتصالات وغيرها، لتصبح قادرة على تقليل مصاريفها، وتقديم خدمة أرقى، والبقاء في حيز المنافسة.
إن هذا التحول الذي أحدثته آبل بتبسيطها لمنتجاتها وخدماتها المقدمة إلى المستخدم، منح الشركة العملاقة سنوات من الحصاد الضخم قبل أن يتمكن أحد من منافستها، وقدّم هذا التحول مفهوماً جديداً في مجال الأعمال، بل في الحياة بشكل عام، وهو مفهوم قائم على التبسيط قدر المستطاع. كنت في محل آبل في نيويورك السنة الماضية، وبعد أن تبضّعت، وقفت في طابور الدفع، وإذا بأحد الموظفين يسألني إن كنت مستعداً للدفع ببطاقة الائتمان، فأجبته بالإيجاب، فما كان منه إلا أن أخرجني من الطابور، وأخذ بطاقتي ومررها في جهاز صغير يحمله في يده، ثم طلب عنوان بريدي الإلكتروني، وما هي إلا ثوانٍ حتى شكرني، فسألته عن الرصيد فقال لي: «ستجده في بريدك الإلكتروني» وفعلاً، أخرجتُ البلاك بيري من جيبي وفتحت بريدي وإذا بالرصيد قد وصل قبل أن يرتد إليّ طرفي.
يعتقد البعض أن التطوير الإداري الذي يؤدي إلى تطوير الأعمال هو عملية تقوم على الإكثار من الأنظمة والقوانين والإجراءات المتشعّبة، فإذا ما دخلت إلى مؤسسة حكومية أو خاصة في بلد من بلدان العالم الثالث، فإنك تُصعق من كثرة الإجراءات التي عليك القيام بها لإتمام معاملتك. فمنذ أربعة أشهر وأنا لاأزل أعاني من إجراءات معاملة بنكية في إحدى البنوك الكبرى، وكلّما أتيتهم بورقة طلبوا ورقة أخرى، وعندما أسألهم عن السبب يقولون لي: «هذه هي الإجراءات» حاولت أن أفهم من الموظف المسئول عن سبب هذه الإجراءات العقيمة فلم يعرف كيف يرد، بل إنه لم يسأل نفسه هذا السؤال من قبل، وكل ما يعرفه هو أن الإجراءات تتطلب كل هذه الأوراق وكفى.
عندما يحاول أحدنا إجراء معاملة في إحدى هذه المؤسسات الأثرية، يطلب منه الموظف جميع الأوراق المتعلقة بحياته، وخصوصاً صورة جوازه، وبعد مدة، يعود أحدنا، مُكرهاً، لنفس المؤسسة لإنجاز معاملة شبيهة، فيطلب منه نفس الموظف صورة الجواز مرة أخرى، وعندما سألتُ أحدهم مرة عن صورة جوازي التي أعطيته إياها قبل عدة أشهر قال لي بأنهم تخلصوا منها!
الغريب في الأمر أن جدران هذه المؤسسات تتزين بشهادات الجودة والآيزو وغيرها من البراويز الخاوية من معنى حقيقي، معتقدين بأن التميز يكمن في الشهادات وفي إحكام قبضة الإجراءات وإرهاق العملاء.
إن التطوير لا يعني التعقيد، بل يعني التبسيط، وراحة العملاء هي الجودة الحقيقية وعرقلتهم هي تسيّب وإهمال، وأولئك الذين يصرفون الملايين على تعقيد العمليات الإدارية وزيادتها في مؤسساتهم بحجة تطوير الأعمال، إنما هم يغتالون الجودة باسم التطوير. يعرّف إدوارد ديمنج، مؤسس علم الجودة، الجودة بقوله: «إن مفهوم الجودة الشاملة يعني تقليل الأخطاء الناتجة خلال تقديم خدمة ما، ويعني زيادة رضا المتعاملين، من خلال تطوير الأدوات والأساليب الإدارية المستخدمة، وتدريب الموظفين» إذن هي ببساطة زيادة رضا المتعاملين، وليس زيادة عدد الشهادات المعلقة على الحوائط في داخل مكاتب المدراء التنفيذيين.
عندما أطلَقَت شركة غوغل موقعها الإلكتروني، آثرت أن يكون الموقع عبارة عن صفحة بيضاء ناصعة، وفي وسطها خانة بحث بسيطة، حتى لا يتشتت ذهن الباحث مثلما يحصل له إذا ما زار صفحة ياهو التي تحاول تقديم كل شيء في صفحة واحدة، وأصبحت البساطة هي السمة الطاغية على خدمات غوغل حتى في طريقة عرض المعلومة، لتصبح غوغل بعد عدة سنوات، إمبراطورية علمية ومعرفية تفوق في أهميّتها أهمية دول بأكملها، على الرغم من بساطتها التي أصبحت مذهباً للناجحين.
كم نحتاج في بعض مؤسساتنا العربية لصفحات بيضاء جديدة، نكتب عليها ما يحتاجه العميل، ونرسم عليها، بخط واضح وبلغة بسيطة، كيف نسعده، ونكون نحن في خدمته لا أن يكون هو في خدمتنا. ليس عيباً أن نراجع أنظمتنا الإدارية ونعيد هيكلتها، فكلما زادت مرونة النظام، كلما صعب كسره. أتمنى أن نشهد اليوم الذي يتحول فيه القائمون على بعض مؤسساتنا العربية، من صائدي شهادات إلى مقدمي خدمات، لكي يكون المتعامل، وليس العملية، هو الهدف من وراء العمل. يقول المثل الإنجليزي: «الصّانِعُ المُهمِل يُلقي اللائمة على أدواته».
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 2948 - الجمعة 01 أكتوبر 2010م الموافق 22 شوال 1431هـ
على المزاج
انت تتكلم عن معاملة الشركات للزباين .. عيل شتقول يا استاذ ياسر عن الأدارات التي تقدم الخدمات للجمهور بمعاملة بعض موظفينها للمراجعين.!
جوريه
اصلا البساطه احلا في كل شيئ احسن من التصنع