بروز طبقة تتخذ من الثروات المنقولة والتجارية أساساً لحر كتها الاقتصادية، ولا تعتمد على الأرض كمصدر وحيد للدخل وللقوة والنفوذ، هو سمة «العصر الحديث» بلا منازع، وإليه مرجع قوته الاقتصادية. وإذ نقول بروزها فإنما نعني بالطبع بروزها بوجه القوة الاقتصادية التي كانت قائمة في الغرب آنذاك، وكانت من ركائز السلطة السياسية أيضاً.
تبدى هذا بأن أخذت الطبقة الناشئة تطالب، من أجل تطوير عملها، بضوابط جديدة تختلف عن الضوابط السائدة المتكلفة تأمين مصالح الإقطاع وضمان سلطته، وإضفاء صبغة قانونية على هذه السلطة. والخلاصة أن هذه الطبقة الناشئة المنفتحة على المستقبل كانت في امتعاض شديد من الأوضاع الدينية والمدنية والفكرية المنتصبة عقبات في طريق تقدمها. ومن ناقل القول أن الاختراعات العلمية والصناعية المتلاحقة لم تزد هذه الطبقة إلا إلحاحاً في مطلبها التغييري، ولم تبث فيها إلا مزيداً من الشجاعة على السير قدماً.
رب متسائل عن داعيتنا إلى إغفال الطبقات المحرومة، بل عدها في حساب هذا التطور التاريخي كماً مهملا ليس إلا. واقع الحال أنه على الرغم من الانتفاضات التي قامت بها هذه الطبقات التي كانت تتألف في معظمها من أيد عاملة شبه مسترقة تكدح لحساب الإقطاعيين، فإن ما نحن بصدده من متابعة لتطور الفكر السياسي في الغرب لا يستفيد كثيراً من التوقف عند هذه الانتفاضات الموضعية. فالصراع والتنافس كانا في واقع الحال بين الطبقة التجارية الناشئة وطبقة الإقطاعيين - الركين الركين للسلطة السياسية والاقتصادية في العصور الوسطى.
بطبيعة الحال، شارك في هذا الصراع حشد كبير جداً من أفراد هذه الطبقات المحرومة اقتصادياً وسياسياً، وفكريا ومعنويا أيضا، وكان لمشاركة هؤلاء يد لا يستهان بها في انتصار الجديد على القديم. غير أنه لابد من الملاحظة أن مشاركة هؤلاء لم تبلور لهم على الفور مكانة تحت الشمس، وأن أجيالاً عدة فصلت بين مشاركة هؤلاء في الإطاحة بالنظام القديم وبين صعودهم كطبقة ذات قوام وكيان. فصعودهم هذا ما كان له أن يتحقق دون وعي هذه الطبقة، أو الطليعة منها على الأقل، بأن الظلم القديم لم يكد يرفع عنها حتى كبلت ثانية على يد الطبقة الناشئة الساعية إلى مضاعفة خيراتها المادية ومواقعها السياسية. على أن الأمر المهم يبقى أن الحرية كانت مبدأ الفكر والعمل طوال العصر الحديث الذي يصطلح على تأريخ انتصاره النهائي بالثورة الفرنسية.
لقد رفعت الثورة الفرنسية الكبرى شعار الحرية والإخاء والمساواة، واستهدفت إلغاء الامتيازات المتوارثة في المجتمع، إلا أن شعارها هذا لم يظلل سائر طبقات المجتمع وفئاته، بل اقتصر مردوده، في شقه الأول أقله، أي الحرية، على طبقة من دون الأخريات.
عليه، فالثورة الفرنسية، كما يقول ديورانت، ثورة قسم من المجتمع أراد «أن يحصل على حصة مساوية لما يحصل عليه النبلاء ورجال الدين من مناصب الدولة وعطاءاتها، وأن يعامل على قدم المساواة أمام القانون، وأن يتمتع بجميع امتيازات الطبقتين المذكورتين سواء بسواء».
إن الثورة الفرنسية هي في الحقيقة ثورة ما يصطلح على تسميته بالطبقة الثالثة، وهذه الطبقة لا تشمل البورجوازية فقط ولكن الطبقة المتوسطة أيضا، وأصحاب المصارف، والتجار ومديري الشركات ووكلاء المحاكم، والأطباء، والعلماء، والمعلمين، والفنانين، والمؤلفين والصحافيين، وأصحاب المطابع، إلى العمال بمختلف فئاتهم.
لكن الذين استفادوا من شعار الحرية والإخاء والمساواة هم أفراد الطبقة ما فوق المتوسطة التي كان ملاك طاقتها، على حد تعبير ديورانت، سلطة المال المتراكم ثروات، والمبرهن يوما بعد يوم عن قدرته على منافسة الإقطاع والكنيسة. تلك الطبقة التي كانت تملأ صالات المسرح وتمتدح أهاجي بومارشيه بحق النبلاء وتلتحق بصفوف الماسونيين وتتلذذ بقراءة فولتير وتنصر جيبون في اعتقاده بأن جميع المذاهب سواء في البطلان وسواء في عودها بالنفع على السياسيين وتتحمس في الخفاء لمادية هولباخ وهلفسيوس.
إلى جانب هذه الطبقة الاقتصادية - الاجتماعية الصاعدة (البورجوازية) كان المفكرون، والفنانون، والعلماء والأخصائيون، ينطرون إلى العالم والإنسان برؤى جديدة، وكان ما كان لهم من دور في تشكيل الرؤية الكونية الجديدة وإشاعتها. وتضامنت الطبقة الاقتصادية - الاجتماعية الجديدة مع أهل الرأي والذوق من الجيل الجديد، في القضاء على الرؤية الكونية السالفة إلى العالم، وفي إرساء الرؤية الجديدة على مادية الطبيعة وتقديم الجوانب الدنيوية.
على ما رأينا، باشرت الطبقة الجديدة صعودها بتثبيت مكانة «المَلَكية» التاريخية، ثم لما بلغت ما تصبو إليه أنزلت الملكية من على أريكة الاستئثار. وعندما اشتد ساعدها أكثر تعامت عن حقوق المحرومين وعن صرخات كل الذين عبروا عن طموحاتهم أو اعتراضهم، سواء في ذلك المصلحون الدينيون أو المنادون بالحرية والعمل على إنقاذ الناس من الظروف اللاإنسانية التي يعانون منها، وتمسكت بتفسيرها هي للحرية والتسامح، بما يحقق أطماعها ومنافعها.
ولا ضير في هذا المقام من الاستشهاد بتحليل لاسكي لبيان أهمية دور الطبقة المتوسطة وتأثيرها: «لقد كان من مآثر البورجوازية في القرن السابع عشر أن نجحت في إنشاء جهاز إداري مضبوط الأداء. والحق أن النبوغ الذي أبدته الطبقة المتوسطة في إنجلترا على مستوى إدارة البلاد يضاهي نبوغ نيوتن في الفيزياء وهوبس في الفلسفة. وخير دليل على ذلك أنها استطاعت، في غضون قرن واحد، أن تغير وجه الامبراطورية بما يساير مقاصدها وطموحاتها، ليس هذا فحسب بل إنها نجحت في الإمساك بدفة الأمر طيلة قرون ثلاثة، ولم يبق من جانب في حياة الناس أو سلوكهم أو أفكارهم لم يلحق به التغيير».
وللاسكي، فيما يخص تضامن أهل العلم وأصحاب الثورة، بيان جميل أيضا يستحق ان نورده بنصه: «كانت فردية التاجر الاقتصادية صنو الفردية الفكرية التي اعتمدها الفلاسفة ونظروا لها. فكل من التاجر والفيلسوف كان يسعى إلى ما فيه زيادة ماله أو زيادة علمه، مثبتاً ببحثه هذا أن صلاح المجتمع لا يتم إلا بإطلاق الحريات. وإذا كان في سعي التاجر إلى المال والثروة ما يعزز من مكانته الاجتماعية، فإن الفيلسوف أيضا كان يرى أن إعاقته عن تحصيل المزيد من المعارف يطفف من قدرته وتأثيره وتالياً من مكانته».
وفي موضع آخر يقول: «... ليست الثورة العلمية إلا نموذجا عن ثورة اجتماعية كانت تشق طريقها، وتبحث في طريقها الذي سلكته عن معايير وقيم جديدة. لم يكن تعلق كل الناس بالثورة العلمية لذاتها، بل لما تخلفه من آثار مدهشة في أفكارهم وحياتهم، تضاهي ما أثره تسخير الفضاء في عصرنا الحاضر. لقد كانت الثورة العلمية ظهيرا معنوياً وروحيا للرأسمالية، إذ بعثت في أنصارها روحاً كانت تفتقر إليها الحياة الاقتصادية السابقة، ومن أبرز سمات هذه الروح الدقة، والتجربة والجرأة، وأخيراً البحث عن القوة والاعتبار».
تحصيل حاصل التأكيد على ما كان للتجار من دور في إرساء العالم الجديد وإدارة تحولاته المتعاقبة. ولكن ما لعلنا مررنا دونه أحياناً مرور الكرام هو دور حركة الفكر والرأي في التمهيد لطموحات هذه الطبقة الناشئة، وفي توفير أسباب تمكنها وصعودها.
وعلى ما يقول لاسكي أيضا: «... كان من مطالب الطبقة الناشئة أيضا مرجعية روحية لا تبتني على أفكار العصور الوسطى، بل تراعي احتياجاتهم. وبما أن الكنيسة لم تسايرهم في ذلك كان أن وفر لهم الفلاسفة ما لم توفره الكنيسة...».
نسارع إلى تقييد ما تقدم بأن هذا التحالف بين الطبقة الجديدة وفلاسفة ذلك العصر لم يكن - بطبيعة الحال - يستغرق الجميع من أفراد هذه الطبقة، أو من الفلاسفة والمفكرين. فلقد ظهرت خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر أفكار ونظريات مخالفة لتلك السائدة، ومخالفة أيضا لتلك التي كانت سائدة من ذي قبل. وعليه فلا معنى من التساؤل عن الأسباب التي حالت دون أن يحالف الحظ هذه النظريات والأفكار التي كان بعضها يتمتع بأسس نظرية ومنطقية لا تتدنى عن منافساتها، بل تتفوق عليها أحيانا.
من المسلم به أن انسجام كثير من المذاهب والآراء مع طموحات ومنافع الطبقة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة كان من جملة العوامل التي يسرت شيوعها وشهرتها، وتقدمها على المذاهب والآراء الأخرى، ولكن علينا ألا نغفل أن الطبقة الجديدة كانت عمليا تستثمر هذه الأفكار والنظريات السياسية والاجتماعية والفلسفية، إضافة إلى الثروة والمَكنة، لتعزيز مكانتها واعتبارها وقدراتها، بما يعود عليها بالمزيد، فضلا بالطبع عما كان للاختراعات والاكتشافات - ثمرة التقدم العلمي - من فوائد لا تعد ولا تحصى. ولكن بمقدار ما شجع هذا الانسجام بعض الأفكار والنظريات، عزل أخرى وأجهضها. ولا تفسير غير ذلك لما حظي به فلاسفة أمثال لوك أو مفكرين أمثال مثل فولتير أو موسوعة مثل الانسيكلوبيديا (دائرة المعارف) من مكانة، قياسا بفلاسفة آخرين عبروا هذين القرنين ولم يبق لهم من أثر إلا في الكتب المتخصصة.
إن وجه المقارنة بين فيلسوف، بالمعنى الحرفي للكلمة، مثل لوك ومفكرين أمثال فولتير وديدرو (1713 - 1784) ليس من حيث عمق الأفكار أو تماسكها، فالأول فيلسوف مؤسس، ذو نظرة شاملة إلى ما يجب أن يكون عليه النظام الأمثل، في حين أن الآخرين مثقفان، مبدؤهما شجب الماضي بلا هوادة، ومنتهاهما التبشير بمستقبل زاهر، الفضل فيه للعقل والعلم الجديد.
إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "العدد 2947 - الخميس 30 سبتمبر 2010م الموافق 21 شوال 1431هـ