يهتم بعض الناس بانتقاء الهدايا التي يقدّمونها لأعزائهم، وهو تقليد تعارفت عليه البشرية منذ القِدَم. يفرح هؤلاء عندما يُعطون، ويشعرون بأنهم في الحقيقة قد أخذوا بهذا العطاء. فعندما تُهدي شخصاً ما هدية فإنك تقول له: «لقد تذكرتك... إنني أهتم بك... إنني أحبك» هذا باختصار ما تنطق به الهدية عندما تتفتح أمام متلقيها، كزهرة لامست يدُ الربيع أوراقَها الندية فانفرجت عن وجه بشوش، وما أن تتفلّت الخيوط التي تحتضن الهدية حتى يمتلئ المكان برائحة المُرسِل، وتطوف كلماته التي نُقِشَت، شفاهة، على وجه الهدية وزواياها.
إن أجمل هدية هي تلك التي تأتي دون مناسبة، لأنها بذلك تكون أصدق، وتكون جزءاً من ذات المُعطي، تحمل صدقاً وحميمية أبدية، وكما قال جبران: «لا قيمة لعطائك إن لم يكن جزءاً من ذاتك».
الهدية هي تجسيد للحب، وهي أبلغ من كل الكلمات التي يمكن أن نتفوّه بها لنعبر عن حبنا للآخرين. فالحب، على الرغم من جماله وحاجتنا إليه، يبقى صعب التعريف، فهو وجود غير الوجود، لا يمكن تأطيره، مثل الفرح والحزن. فأن تُؤَطّرَ الشيء يعني أن تتعرف عليه بإحدى حواسك، وأي حاسة يمكنها أن تتعرف على الحب! فلا يمكننا أن نراه أو نسمعه أو نشمّه أو نلمسه... ولكننا نستطيع أن نشعر به.
شيئان يصعب تعريفهما، اللحن والرائحة. جرّب مثلاً أن تبحث عن موسيقى سمعتها ولكنك لا تعرف اسمها أو اسم ملحّنها، ماذا ستقول للبائع عندما تسأله عنها؟ وحاول أن تطلب من بائع العطور أن يعطيك عطراً شممته مرة ولكنك لا تعرف اسمه أو شكله، كيف ستشرح له ذلك؟
هذه هي جدلية الحب، يختفي عندما نحاول تأطيره، ويظهر عندما نعجز عن إيجاده، إن الموسيقى والعطر، على رغم سرياليّتهما، إلا أنهما يجسّدان الحب، ويعرّفانه، ويمنحانه شكلاً وملامح.
عندما يصبح الحب أرثوذوكسياً فإنه يُحال إلى التقاعد، ويحدث ذلك عندما يبقى رهين بوتقته التقليدية، كالجنس، والرسائل، والكلام المنمّق وغيرها من ممارسات يؤدّيها البشر دون أن يشعروا بأنهم ممثلون في مسرحية مملّة، لا تثير حماس الجمهور حتى يخرج أحد أبطالها عن النصّ، عندها تتحول المسرحية إلى واقع جميل.
سألني أحدهم يوماً: كيف يتجدد الحب؟ فقلت له: بالمفاجأة وبالهدية. فالمفاجأة بداية، وكم يهوى الإنسان البدايات لأنها تكون خالصة وصادقة ولا تدوم، فما أن تبدأ حتى تنقضي، وما أن تقف حتى تمضي، فالبقاء ممل ومضنٍ أحياناً، يقول الشافعي:
إنّي رأيتُ وقوفَ الماء يُفسِدُهُ
إن ساحَ طابَ وإن لم يجرِ لم يطِبِ
أما الهدية فإنها تذكار قال عنه جبران إنّه شكل من أشكال اللقاء. والهدية أيضاً تَذَكُّرٌ يُذْكي المشاعر ويُبْقِى جذوتها متلألئة كوجوه المتحابّين عندما يرونها. إن فرحة العطاء أصدق من فرحة الأخذ، فعندما يُعطي المحب فإنه يزرع الحَبّ ليحصد الحُب، وعندما يُعطي المحب فإنه في الحقيقة يأخذ. تذكّر قليلاً، كم شخصاً أعطيته فأحبّك؟ وإذا قارنت قيمة عطائك بقيمة الحب الذي حصلت عليه، فستجد بأن الحب يفوق كل عطاء، لأنه هدية من هدايا السماء.
كلّما تلقيتُ هدية، أي هدية، أشعر بأن جميع معاني الحب، وجميع قصائد الحب، وجميع رسائل الحب، قد اختُزِلَت فيها. الهدية ترياق ضد نوازعنا الليلية، ومشكاة تضيء معانيها الجزء المظلم من نفوسنا، وعِطْرٌ تنتشي بعبقه مشاعرنا وتعود هي المسيطرة، فعندما تطغى الرغبات على المشاعر يموت الحب، ولا يعود له ذكر في دواوين العاشقين. إن الحب هو أقوى دافع للإبداع، وانظر إلى الشعراء هل كان غير الحب دافعاً لشعرهم؟ إن الهدية إذا وافقت هوى المُهدى إليه وحاجته أصبحت إحساناً، وعظُمت مكانتها لدى المتلقّي حتى تفوق كل أمنياته، وقديماً قال الشاعر البستي:
أحسِن إلى الناسِ تستعبِد قلوبَهُمُ
فطالما استعبد الإنسانَ إحْسانُ
يقول الصينيون: «مثلما يعود النهر إلى البحر، يعود إحسان الإنسان إليه» ولا أدري أيهما أفضل، النهر أم البحر؟
إن من يُحب يُهدي، ومن يُهدي يحب، وخير هدية هو الحب ذاته، فهو البقاء بعد الرحيل، وهو الحياة بعد الموت، وهو الكلمة التي لا تحتاج إلى قاموس. لا شيء ينقّي القلب من شوائبه ويطهّر النفس من نوازع الحسد مثل الهدية، فهي كالسُقيا التي تُحيي النفوس الضائعة، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.
إن في الهدية تجسيد لكل شيء جميل، وفيها شفاء لكل قلب عليل، ولا يهمّ حجمها أو نوعها، فالمهم هو كُنْهُها وقَصْدُها وصفاؤها، يقول علي بن أبي طالب: «لا تستحِ من إعطاءِ القليل، فالحرمان أقلّ منه» والهدية مثل الكلمة، تسقط على قلب المتلقي فتصيب هواه وتلامس شغافه... تَلِجُ النفس دون استئذان، وتدلف إلى أحلامنا ضيفاً خفيفاً نهواه منذ النظرة الأولى.
الهدية تشبه يوم العيد، يضجّ صباحه بالفرحة، ويمتلئ نهاره بالذكريات الجميلة، وهذا هو السلام الحقيقي. لا تحلو الهدية إلا عندما تأتي قبل أن نشعر بالحاجة إليها، لكي تخلق هي الحاجة، دون تكلّف أو صَخَب، ودون تباطؤ أو تردد. يقول الإيطاليون: «من يُعطي بسرعة فقد أعطى مرتين».
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 2941 - الجمعة 24 سبتمبر 2010م الموافق 15 شوال 1431هـ
"حقيقة الحب"
إن أكثر ما أعجبني في المقال، هو بلوغك حقيقة الحب الأبيض الذي لا يشوبه كدر ولا تدنسه رغباتٍ حيوانية ،الحب مشاعر كالآيات الكريمة ، تحتاج الى عمق ووعي ثاقب مع إيمان بقلب نافذ نقي، للوصول إلى التأويل المراد به،ولعلّ هذه الدرجات تحتاج إلى جهد للوصول لها على الرغم من بساطتها و كنه روعتها ،،
في رأيي من أجمل الهدايا هي الورود فإنها تحمل كلمات وروائح وألوان تملك الكفاءة في الوصول الى القلوب قبل الأعين الشاخصة.
تسلم أخي الكريم على الطرح الرائع ،،
ابغي هدية
جان زين زوجي يقرأ المقال يمكن يحس في شوي
الا ولامرة جاب لي هدية بدون مااطلب منه رغم اني اهادية بمناسبة وبدونها
كنت دائما اقول له ماتحبني لو كنت تحبني جان تذكرتني بهدية مو احتياج في الهدية لكن احتياج للاهتمام وتعبير عن التقدير
شكرا استاذي وتسلم اناملك المضيئة
صـح الله لسانك.
كلمات الجميلة و معبرة استاذ ياسـر .. الحين افكّر في نوع الهدية و على الله تجيب نتيجة و يا الطرف الثاني. و على ما يقول المثل في الهدية .. بصلة المحب خـروف.