تنقسم حياة عبدالرحمن بن خلدون إلى ثلاث محطات كبرى. تبدأ الأولى من مولده في تونس 732 هجرية (1332م) وتنتهي بمصرع صديقه سلطان بجاية في العام 769 هجرية (1367م) وتردده في اعتزال السياسة. ومجموع فترة المحطة الأولى 37 سنة.
التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً هو آخر ما كتبه صاحب المقدمة يروي فيه قصة حياته الطويلة إلى لحظة سفارته إلى الشام وفشله في مفاوضة تيمورلنك وعودته إلى مصر. وما كاد يصل حتى بدأ يلاقي المصاعب وخصوصاً الصراع على منصب قاضي المالكية في القاهرة بينه وبين الشيخ جمال الدين البساطي حين انتزع منه الأخير الموقع سنة 804 هجرية (1401م). «ثم راجع السلطان بصيرته، وانتقد رأيه، ورجع إلى الوظيفة خاتم سنة أربع (أي 804 هجرية)، فأجريت الحال على ما كان. وبقي الأمر سنة وبعض الأخرى. وأعادوا البساطي إلى ما كان، وبما كان، وعلى ما كان، وخلعوا عليه سادس ربيع الأول سنة ست (806 هجرية)، ثم اعادوني عاشر شعبان سنة سبع (807 هجرية). ثم أدالوا به مني ذي القعدة من السنة وبيد الله تصاريف الأمور» (مجلد 7 صفحة 628 – 629). وتوفي ابن خلدون وهو من جديد في وظيفته في سنة 808 هجرية (1405م). نجد من الصفحات الأخيرة التي دونها كم كانت نهاية حياته مضطربة وغير مستقرة إذ فقد منصبه واستعاده مرات ثلاثاً في أقل من سنوات خمس.
كيف يصف ابن خلدون رحلته؟ يبدأ بأهل بيته من اشبيلية حين اضطر أهله الجلاء عنها في «أواسط المائة السابعة» بعد استيلاء «ملك الجلالقة ابن ادفونش عليها». ويعود نسب عائلته إلى حضرموت «من عرب اليمن، إلى وائل بن حجر، من اقيال العرب». ويستشهد بكتاب «الجمهرة» لأبو محمد بن حزم وكتاب «الاستيعاب» لأبو عمر بن عبدالبرّ لقراءة أصل شجرة عائلته وتاريخها الديني والسياسي. ويذكر طه حسين في كتابه عن ابن خلدون أنه سليل أسرة عربية تعود جذورها إلى قبيلة كندة. ويذكر صاحب (التعريف) أنه حصلت واقعة في الكوفة بين أهل اليمن وجده الكبير الأول حجر بن عدي الكندي فأوثقوه وسلموه لمعاوية بن أبي سفيان وقتله لأنه رفض مبايعته.
ولما دخل «خلدون بن عثمان جدنا إلى الأندلس، نزل بقرمونة في رهط من قومه حضرموت» ثم انتقلوا إلى اشبيلية. وهناك تعاطت أسرته السياسة ودخلت في صراعات محلية على الزعامة و»ذلك في أواخر المائة الثالثة». ويعتبر طه حسين ابن خلدون سليل أسرة حكمت اشبيلية الأندلسية سنة 280 هجرية (893م). وينقل صاحب (التعريف) أخبار تلك الفترة عن ابن سعيد عن الحجاري وابن حيان حين اضطربت الأندلس و»تطاول رؤساء اشبيلية إلى الثورة والاستبداد» (ويعني الاستقلال). وهم ثلاثة بيوت بينهم «بيت بني خلدون».
وينقل وصف ابن حيان لعائلته إذ أشاد بنباهتهم وتراوح أعلامهم «بين رياسة سلطانية ورياسة علمية» فهم بيت سياسة وعلم. ولما عظمت الفتنة بالأندلس في 280 هجرية وكثرت الانقلابات كاد «أولاد بني خلدون» يفقدون حياتهم فتظاهروا بالطاعة ثم انقلبوا على والي المدينة أمية بن عبدالغافر وخلعوه وقتلوه فبعث الأمير عبدالله عليهم هشام بن عبدالرحمن من قرابته «فاستبدوا عليه، وفتكوا بابنه، وتولى كبر ذلك كريب بن خلدون، واستقل بإمارتها» (التعريف، ص 451 – 453).
يسرد ابن خلدون قصة حياة شجرة عائلته ليؤكد أنه سليل أسرة ذات جاه مفقود لكنه يحافظ قدر الإمكان على موضوعية الأخبار من دون تعصب لعائلته أو يتحامل على غيرها، ويذكر أن كريب بن خلدون «تحامل على الرعية وتعصب، فكان يتجهم لهم، ويغلظ عليهم» الأمر الذي دفعهم إلى تأييد الوالي المنافس. وانتهى المقام بأن «هاجت العامة بكريب فقتلوه، وبعث برأسه إلى الأمير عبدالله» (التعريف، ص 454).
على رغم تشدد كريب وكره العامة له قام بتحصين مدينة قرمونة وجعلها أعظم معاقل الأندلس كما يذكر ابن حيان. وقام بتنظيم الجند ورتبهم طبقات وكان مقصوداً من الأدباء والشعراء وأهل البيوت وقصده صاحب كتاب «العقد الفريد» أبو عمر بن عبدربه «فعرف حقه وأعظم جائزته» (التعريف، ص 454).
بقي بيت «بني خلدون» في أشبيلية إلى عهد ملوك الطوائف (أزمان الطوائف كما يقول) إلى أن «انمحت عنهم الإمارة بما ذهب لهم من الشوكة» لكنهم سرعان ما استردوا مجدهم عندما علا عصب ابن عباد إذ استفاد من خبرة بيت خلدون فاستوزر منهم و»استعملهم في رتب دولته» وشاركوا معه في «وقعة الزلاقه» الشهيرة التي انتصر فيها المسلمون على يد ابن عباد في عهد يوسف بن تاشفين «على ملك الجلالقة». وسقط في المعركة خلق كبير بينهم طائفة من بني خلدون، وانتهت بتغلب «يوسف بن تاشفين والمرابطين على الأندلس». وقويت شوكة أسرة ابن خلدون بعد أن أصابها الضعف والوهن بمقتل كريب وخسارة ولاية اشبيلية.
يسرد صاحب «التعريف» أخبار الخلافات والصراعات في الأندلس على الجبهتين الخارجية مع الفرنجة والداخلية بين الأمراء وما بينهم من نزاعات. فيذكر استيلاء الموحدين على الأندلس وانتزاعها من المرابطين بزعامة «عبدالمؤمن وبنيه». وقام الأخير بتولية الشيخ أبو حفص على اشبيلية وغرب الأندلس ثم ابنه عبدالواحد وابنه ابا زكريا وكان «لسلفنا بإشبيلية اتصال بهم» وأهدوا أبو زكريا جارية اتخذها «أم ولد، وكان له منها ابنه أبو يحيى زكريا».
الصلة بالسياسة لم تنقطع وتقلب أسرة ابن خلدون بين عهد وآخر من المرابطين إلى الموحدين وولاتهم «بنو حفص» في اشبيلية إلى أن انقلبت الأوضاع مرة أخرى فاضطر الأمير أبو زكريا إلى الانتقال إلى «ولاية إفريقيا سني العشرين والستمائة» فانشق عن بني عبدالمؤمن ودعا لنفسه سنة 625 هجرية (1228م) في وقت «انتفضت دولة الموحدين بالأندلس» وثار عليهم ابن هود في اشبيلية وابن الأحمر في غرب الأندلس محاولاً استعادة زمام المبادرة ووقف التنازع للحفاظ على ما تبقى «من رمق الأندلس». (التعريف، ص 455). لكنه لم يوفق في تأليف القوى ودفعها للدفاع عن الجبال الساحلية وأمصارها المتوعرة. وسرعان ما دخل ابن الأحمر في مشاكل فمرة كان يبايع ابن هود ومرة صاحب مراكش من بني عبدالمؤمن ومرة للأمير أبي زكريا في إفريقيا، إلى أن أقدم على دخول غرناطة «فخشي بنو خلدون سوء العاقبة مع الطاغية، وارتحلوا من اشبيلية إلى العدوة». ويقدر ابن خلدون مدة وجودهم في الأندلس منذ أول الفتح إلى دخولها وخروجهم منها إلى عهده حوالي 700 سنة أي حوالي 20 جداً (ثلاثة جدود لكل مئة سنة).
بخروج أسرة ابن خلدون من اشبيلية تبدأ دورة جديدة في حياتها بعد مجد ضائع تم استعادته ثم خسارته ثم استعادته بين جدٍ وآخر إلى أن اكتملت دائرة الهزيمة بالخروج من الأندلس وضياع أرزاقها وأملاكها. وتشكل مسألة الصعود والهبوط ثم الصعود والهبوط ثانية من ثوابت حياة ابن خلدون وأعماله الفكرية، إذ قضى يحلم باستعادة الجاه المفقود في وقت كانت تحط به الأيام من درجة إلى درجة أدنى وانتهى ينافس أحد الشيوخ على منصب قاضي المالكية في مصر.
يتابع ابن خلدون رواية تاريخ حياته. بعد العدوة انتقل البيت إلى سبته بعد أن تقدم ابن الأحمر وملك قرطبة واشبيلية وقرمونة فكان لابد من الإبحار من الأندلس إلى أقرب نقطة إليها في المغرب. لكن الحسن بن محمد (جد بيت خلدون) التحق بالأمير أبو زكريا فأكرمه و»فرض له الأرزاق، وأقطع الاقطاع» وخلف ابنه محمد (ابا بكر) فنشأ «في جو تلك النعمة ومرعاها». وهكذا استقرت أوضاع بيت خلدون فاستعاد شيئاً من ما كان عليه أسلافهم الأمراء.
توفي الأمير أبو زكريا سنة 647 هجرية (حكم 22 سنة). وولي ابنه المستنصر محمد فأكرم «جدنا أبا بكر على ما كان لأبيه» إلى أن توفي سنة 675 هجرية (1276م) وولي ابنه يحيى مكانه إلى أن عاد عمه الهارب من والده من الأندلس فخلع يحيى و»استقل هو بملك إفريقيا» وكلف جده البعيد (جد ابن خلدون) أبو بكر بأعمال في الدولة «من الانفراد بولاية العمال، وعزلهم وحسبانهم، على الجباية، فاضطلع بتلك الرتبة» ثم كلف السلطان جد ابن خلدون الأقرب (محمد) حجابة ولي عهده لكنه استقال من المهمة.
ما كادت تستتب الأمور وتستقر ويبدأ بريق استعادة الجاه الضائع بالظهور تغلب ابن أبي عمارة على المُلك في تونس و»اعتقل جدنا أبا بكر محمداً، وصادره على الأموال، ثم قتله خنقاً في محبسه» (التعريف، ص 456). ويبدو أن ابن خلدون تقصد من رواية قتل الجدود من الجد الأكبر (أيام معاوية) إلى جده الأقرب (أبو بكر) ليعطي فكرة عن الطابع المأسوي لأسرته وحظها المنكوب دورياً بين عصر وعصر وعهد وآخر.
يتحدث ابن خلدون عن معركة مرماجنة ونجاة جده محمد مع أبي حفص ابن الأمير أبو زكريا من المجزرة، فأقام معه إلى أن «استولى أبو حفص على الأمر» فأقطعه وأدخله كأحد قادة الدولة و»مراتب أهل الحروب» ثم رشحه لحجابته. وبعد وفاة أبو حفص جاء شقيقه المستنصر و»جعل محمد بن خلدون رديفاً» في منصب الحجابة. ومات المستنصر وجاءت «دولة الأمير خالد» فأبقاه و»لم يستعمله ولا عقد له» إلى أن كانت «دولة أبي يحيى بن اللحياني» فكلفه بمهمة الدفاع عن الولاية ضد هجمات قبيلة دلاج وهي «أحد بطون سليم الموطّنين بنواحيها» فأبلى بلاء حسناً في مقاومة القبائل العربية (بنو سليم وبنو هلال).
ارتفع شأن بيت ابن خلدون من جديد إلى أن انقرضت «دولة ابن اللحياني» وأبقى السلطان أبو يحيى بيد جده ما كان بيده من «الإقطاع والجراية» وعرض عليه منصب الحجابة فامتنع مراراً. ويبدو أن جده دخل في فترة زهد وتقشف وانكباب على العلم فخرج إلى المشرق وحج في سنة 718 هجرية و»أظهر التوبة والإقلاع» وعاود الحج سنة 723 هجرية (1323م). ثم عرض عليه منصب الحجابة من جديد سنة 727 هجرية فاستعفى ونصحه باستقدام صاحب ثغر بجاية محمد بن أبي الحسين وتحميله مسئولية المنصب نظراً «لاستحقاقه ذلك بكفايته واضطلاعه» (التعريف ص 457). وعمل السلطان بإشارته. واحتفظ جده بمكانته ومقامه نظراً لوثوق السلطان به وكان يحمله مسئولية ولاية تونس إذا خرج منها لفترة. وبقي الأمر كذلك إلى أن توفي جد ابن خلدون في سنة 737 هجرية (1336م) وخلف والده (محمد أبو بكر) الذي تربى على طريقة العلم والرباط وعاشها بعيداً عن طريق السيف والخدمة كما كان أجداده.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2940 - الخميس 23 سبتمبر 2010م الموافق 14 شوال 1431هـ