لاشك في ان التفكير المستقبلي في القضايا الاستراتيجية وفي مقدمتها قضايا الأمن الوطني يمثل المحك الرئيسي للتفكير السليم لأية دولة.
وقد نشأ مفهوم التخطيط عموما مرتبطا بالنظم الشمولية الا ان النظم الديمقراطية اهتمت بتطوير فكرها في المجالات الاستراتيجية ثم ادى تطور الفكر السياسي وتقارب النظم السياسية في النصف الثاني من القرن العشرين إلى ان اصبح مفهوم التخطيط من المفاهيم المتأصلة في مختلف النظم واصبح البديل له هو العمل العشوائي ومن ثم التخبط والارتجال والدمار والتخلف.
وارتبط مفهوم الاستراتيجية اساسا من حيث النشأة بالمفاهيم والممارسات العسكرية في القرون الماضية ثم انتقل في القرن العشرين للمجال السياسي والاداري والاقتصادي والاجتماعي وباختصار في شتى فروع المعرفة ومختلف أنشطة الحياة وأصبح الاتهام، الذي يوجه إلى اية مؤسسة او ادارة او وزارة، هو انه ليست لديها استراتيجية واضحة، وبعبارة اخرى ان تعبير الاستراتيجية اصبح سمة اساسية من سمات التقدم، وتحول الربط بين التخطيط والاستراتيجية ليقدم إلينا مفهوم التخطيط الاستراتيجي، اي وضع الخطط بعيدة المدى لتنفيذ الرؤية ولتحقيق الاهداف. ولاشك ان لكل دولة رؤية لوضعها ومستقبلها، ولكل شركة او وزارة او مؤسسة ذلك، ومن هنا فلابد ان تضع الخطط لتحقيق هذه الرؤية ولوضع الاهداف موضع التنفيذ.
اما الدولة او المؤسسة او الوزارة التي ليس لها خطة استراتيجية فقد اطلق عليها البعض انها ادارة مطافئ مهمتها اطفاء الحرائق المندلعة من شارع لاخر او من حي لاخر، علما بان اية ادارة مطافئ لابد ان تكون لها رؤية ولها خطة استراتيجية تسعى لتحقيقها ايضا.
والتخطيط الاستراتيجي بصفته مفهوما له مستويات وله ادوات وله وسائل، وهو مفهوم شامل متنوع. ولكنه عموما يرتبط بثلاثة امور:
الاول: وجود رؤية للتطلع إلى المستقبل تعتمد على النظر للواقع والموقع اي الاجابة على سؤال من انا واين انا الآن؟ والتطلع للاجابة على سؤال من ارغب ان اكون؟ واين ارغب ان اصل او يكون موقعي؟ هذه الرؤية تعد نقطة البداية ومن الضروري صوغها في قالب سهل وبعبارة او عبارات موجزة حتى يسهل استيعابها بل وحفظها لكل فرد من افراد المجتمع.
الثاني: وجود استراتيجية واضحة لتحقيق الرؤية وهذه الاستراتيجية لها درجات ومستويات من المستوى الوطني او الاعلى إلى ادنى وحدة تنظيمية او ادارية او انتاجية او خدمية في المجتمع بحيث كل منها لابد ان يضع استراتيجية طويلة الامد واخرى قصيرة الامد حتى يمكن تجميع كل هذه الاستراتيجيات وربطها ببعضها بعضا في اطار استراتيجي شامل ومتكامل للدولة بأسرها.
الثالث: ان لكل استراتيجية خصائص وادوات ومن هذه الخصائص ضرورة اتسامها بالمرونة والمقدرة على التأقلم المستمر وفقا للمتغيرات والمستجدات اذ انه مهما كانت درجة الدقة في اعداد الاستراتيجية، واحصاء المؤثرات عليها من المدخلات المختلفة Inputs، فان ثمة مدخلات جديدة قد تطرأ، تؤثر سلبا او ايجابا على هذه الاستراتيجية ومن ثم فان وضع سيناريوهات بديلة يعد امرا مرتبطا ارتباطا وثيقا بالاستراتيجية.
كما ان لكل استراتيجية ادوات، وهذه الادوات تقسم إلى نوعين ادوات مادية مثل القدرات والامكانات الناتجة عن وسائل التكنولوجيا الحديثة، ومن الموارد الطبيعية ونحو ذلك، وادوات غير مادية وخصوصا الموارد البشرية، وهذه بالغة الاهمية فكم من خطط استراتيجية رائعة لم تتحقق لضعف الموارد البشرية وقلة خبرتها وعدم احساسها بالولاء والانتماء.
والعالم الحديث لم يعد يقبل التصرفات العشوائية في السياسة او في الاقتصاد او في الاجتماع انما يستند إلى استراتيجيات وسيناريوهات وفكر ورؤية تحكم ذلك كله. ولقد انشأ محمد علي الكبير دولة حديثة في مصر ولكنه اتبع الاستراتيجية الخطأ. ولذلك تكالبت عليه الدول وافقدته كل نتائج انتصاراته، وانشأ سعيد واسماعيل من بعده قناة السويس ولكن اتباعهما الاستراتيجية الخطأ ادى إلى بيع حصة مصر في القناة وخضوع مصر لصندوق الدين، وفي العصر الحديث قامت في مصر ثورة 1952 حققت انجازات كثيرة وطرحت شعارات وافكارا قومية واضحة ولكن بعض الاستراتيجيات الخطأ التي اتبعتها اضاعت كثيرا من مكاسبها، وكذلك الشأن على الساحة العربية إذ انشأ العراق صناعات حديثة، ولكن ضعف الرؤية وعنجهية القيادة وضعف خبرتها العملية، وقلة ثقافتها العلمية جعلتها تعيش في اوهام، وبذلك تحطم العراق الحديث وذهبت قوته أدراج الرياح وهكذا دواليك، والموقف نفسه ينطبق على النفط وفائض الاموال العربية فقد تحول النفط إلى سلاح ضد المنتجين بدلا من ان يكون لصالحهم، كذلك الامر بالنسبة إلى الارصدة العربية الفائضة في الخارج فاصبحت رهينة بارادة الدول المستقبلة للاموال وليست قوة في يد اصحابها.
وعلى سبيل المقارنة نجد ان الصين دولة بارعة في الاستراتيجية بعيدة المدى اذ وضعت رؤيتها في عبارة موجزة: «دولة صناعية تصل إلى دولة متوسطة على المستوى العالمي بحلول العام 2005»، ثم اتبعت استراتيجية النمو غير المتوازن في اقامة المناطق الصناعية في الشرق وتلته بالانتقال إلى غرب الصين، ثم بدأت رفع مستوى معيشة سكانها وبنت جيشها، ولم تتورط في حروب او عنجهيات لتقول انها اكبر قوة، وترفض القول بانها دولة كبرى او عظمى وتصر على ان تطلق على نفسها دولة نامية. أليس ذلك هو قمة الواقعية في بناء الاستراتيجية والسعي للحفاظ على المكاسب وعدم التورط في المغامرات.
انه لاشك ان مسألة بناء استراتيجية شاملة لكل دولة تعد من الضرورات، وايضا لكل وزارة وان تعلن على الملأ، وتضع لها اهدافا مرحلية يتم الالتزام بها. ذلك هو طريق التقدم الذي جعل مدينة صغيرة مثل دبي تتباهى على مدن كبرى في عواصم كبرى من العالم، والذي جعل سنغافورة دولة صغرى تسعى لها الدول الكبرى لتتعلم من تجربتها، انها السياسات الواضحة والرؤية الواضحة والاستراتيجيات الصحيحة التي يتم الالتزام بها مهما كانت الاهداف متواضعة ستتحقق على ارض الواقع بلا شعارات ويتم تعلية البناء في صورة عمل تراكمي منظم ومنسق.
من هذا المنطلق يمكن لمملكة البحرين بناء استراتيجية مستقبلية للامن الوطني تعتمد على حقائق القوة في بداية القرن الحادي والعشرين. ولنتساءل ما هي ابرز تلك الحقائق:
الاولى: ان القانون الاساسي في التعامل بين الدول وتحقيق الأمن هو قانون القوةPursuing Power Through Security Pursuing
الثانية: ان الدول تحدد موقفها في التعامل مع الدول الاخرى وفقا لاسس ثلاثة هي:
1- القوة التي تملكها اي القوة الشاملة.
2- المصلحة الوطنية التي تراها اي مصلحة الدولة والنظام والنخب.
3- العقيدة السياسية التي تعتنقها.
الثالثة: ان فلسفة الاخلاق والمثاليات ذات اثر محدود في العلاقات الدولية وفي تحقيق الأمن الوطني للدولة وقد اطلق احد الكتاب على اصحاب ذلك التفكير تعبير فلاسفة الكراسي المريحة Arm-Chair Philosophers
الرابعة: ان الولايات المتحدة تسعى في هذه المرحلة للتركيز على المنهج الواقعي Realistic في السياسة الدولية في اطاره التقليدي القائم على:
أ - نسبية القوة واثرها على اوزان وثقل الدولة.
ب - نسبية مفاهيم العدالة والحقيقة والاخلاق.
ج - رفض مفهوم السيادة المتساوية والتأكيد على السيادة غير المتساوية.
الخامسة: يدعو عدد من المفكرين الاميركيين إلى ضرورة اعادة بناء النظام الدولي على اسس واقعية بما يعكس الافكار السابقة وان الاخذ بمثل هذا الفكر الواقعي هو اول خطوات اصلاح النظام الدولي وتشييده على اسس سليمة.
السادسة: ان مصلحتنا باعتبارنا دولا نامية - بخلاف الموقف الأميركي - هي التركيز على ضرورة احترام قواعد القانون الدولي والشرعية الدولية، ولكن في الوقت نفسه التصرف والتخطيط وفقا للحقائق الفعلية في السياسة الدولية.
السابعة: ان القوة المسيطرة في العالم اليوم هي التي تضع الاجندة الدولية والمتمثلة - كما اوضحت احدث الدراسات الاميركية حول الأمن - في ثلاثة بنود: الارهاب - الطغيان - اسلحة الدمار الشامل. وهذه الدراسة تضمنها مشروع بحثي لاهم مراكز التفكير الاميركي وهو مجلس العلاقات الخارجية بعنوان:
A New National Security Strategy in an Age of Terrorists,tyrants and Weapons of Mass Destruction (WMD).
والاجابة على ذلك ليست امرا سهلا ولا ميسرا، فمهمة المفكر والباحث هو تقديم التحليل والسيناريوهات والاختيارات والبدائل، ومهمة رجل السياسة وصاحب القرار هو اتخاذ القرار الذي يراه صوابا، ويحقق الاهداف الامنية والاستراتيجية ومصالح دولته من بين الاختيارات المتعددة المطروحة
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 294 - الخميس 26 يونيو 2003م الموافق 25 ربيع الثاني 1424هـ