النقاش حول استخدامات الطاقة النووية في أوروبا كان الدافع لشركة «مورول» السينمائية الإيطالية إلى إنتاج فيلم وثائقي بعنوان: «القضية النووية». تم عرض الوثائقي في مهرجان روما للأفلام في أكتوبر/ تشرين الأول 2009، حيث حصد جوائز لطرحه القضية بقوة من زوايا أخلاقية وبيئية واقتصادية.
الفيلم يسأل، بعد ربع قرن على كارثة مفاعل «تشيرنوبيل» السوفياتي، وثلاثة عقود على الانفجار النووي في مفاعل «ثري مايل آيلاند» الأميركي، هل هناك مبرر أخلاقي لتحمل النتائج الكارثية للحوادث النووية المحتملة، لقاء الحاجة الى إنتاج المزيد من الطاقة؟ هل الطاقة النووية خيار لا بد منه؟ وهل قرار إيطاليا حظر المفاعلات النووية، في استفتاء حصل عقب كارثة تشيرنوبيل العام 1986، قرار صائب؟
حين اتصلت بي شركة «مورول» قبل فترة تطلب اجراء مقابلة لفيلم وثائقي عن الطاقة النووية في المنطقة العربية تعمل على إنتاجه، رحبت بالفكرة. فقد وجدت من المفيد المساهمة في إطلاق نقاش عربي جدي حول الموضوع.
«هل أنتم خائفون من الآثار المدمرة لانتشار الإشعاعات النووية فوق المنطقة العربية في حال حصول حادث في المفاعلات الايرانية مشابه لحادث تشيرنوبيل؟» فاجأني السؤال الذي افتتح به محدثي المقابلة، إذ قبل أن يخاف اللبناني، مثلاً، من آثار حادث نووي في إيران على مسافة 2000 كيلومتر من بيروت، عليه أن يخشى حادثاً نووياً في مفاعل ديمونا الاسرائيلي على مسافة 200 كيلومتر، هذا إذا اقتصر الأمر على حادث. فمفاعل ديمونا ينتج رؤوساً حربية نووية، في بلد قام أساساً على إلغاء شعب آخر، وهو يرفض التوقيع على معاهدة حظر انتشار السلاح النووي. وعلى المقلب المقابل لشاطئ المتوسط، عشرات المفاعلات النووية في فرنسا، يكفي حصول حادث في واحد منها لتعبر الاشعاعات البحر إلى الدول العربية المتوسطية. وعلى بعد 300 كيلومتر من بيروت، تعمل تركيا على بناء مفاعل نووي على شاطئ «أكويو» مقابل جزيرة قبرص.
هذه كلها أقرب إلينا، أجبت محاوري، فقال معلقاً: «ولكن عديداً من الدول العربية بدأت برامج لإنشاء محطات نووية». هذا صحيح، قلت له، والدوافع متعددة. فبعض الدول تعاني عجزاً في مصادر الطاقة، بينما تمتلك مخزوناً من اليورانيوم تخطط لاستخراجه واستخدامه لانتاج الكهرباء من الطاقة النووية، مثل الأردن. والبعض الآخر غني بمصادر الطاقة التقليدية، لكنه يريد الدخول في التكنولوجيا النووية تحت شعار تنويع مصادر الطاقة وتسريع التنمية. لكن الخطر هو في تخويف بعض الدول من «أعداء» محتملين، لدفعها الى شراء المعدات والتكنولوجيا النووية، ما قد يؤدي إلى هدر الثروات الوطنية في سباق عبثي. وهذا السباق لن يقوم على تطوير التكنولوجيا وامتلاكها، بل على شراء معدات جاهزة من «مندوبي المبيعات الدوليين»، وبينهم رؤساء دول، يعرضون المفاعلات النووية والعتاد العسكري على طبق واحد مع مبادرات السلام.
يبدو أن جوابي استفز محدثي، فسأل: «هل أنت ضد أن يمتلك العرب التكنولوجيا، بما فيها النووية؟» أنا أرغب أن يطوّر العرب ويمتلكوا كل التكنولوجيا، وكذلك العلم والأدب والفن. لكن ماذا يعني شراء مفاعل نووي، وما زال كبار القوم يقصدون مستشفيات أوروبا وأميركا للعلاج حتى من أبسط الاصابات والأمراض؟ قبل المفاعلات النووية، ماذا حققنا في مجال البحوث العلمية، أكان في الطب أو الهندسة أو الفيزياء أو الكيمياء أو الاقتصاد أو الاجتماع؟ العرب ما زالوا في أدنى مرتبة بين مناطق العالم في حجم الموازنات المخصصة للبحث العلمي. فلنعتبر: الدول العربية، التي تنتج 60 في المئة من مياه البحر المحلاّة في العالم، ما زالت تستورد المعدات والتكنولوجيا وقطع الغيار بالكامل، وفي معظم الحالات تستورد الفنيين والمشغّلين مع الآلات. فهل يكون لبناء مفاعل نووي أولوية فوق بناء مصنع لانتاج فيلتر أجهزة تحلية مياه البحر؟ أو هل يكون أهم من تطوير الخدمات الطبية، فلا يضطر المواطنون إلى السفر لجراحة بسيطة مثل استئصال المرارة؟
وفي النهاية، أليس من الأجدى استثمار جميع الامكانات المتاحة للطاقة المتجددة، خاصة من الشمس والرياح، وهي متوافرة ونظيفة ومأمونة، قبل إنتاج الكهرباء النووية؟
من حق العرب تطوير التكنولوجيا وامتلاكها، شرط تحديد وجهة استعمالها وفق الحاجات الحقيقية وضمن احترام اعتبارات السلامة والأمان. لكن حذار الوقوع في لعبة التخويف المصطنعة بهدف بيع «بضائع» كاسدة.
إقرأ أيضا لـ "نجيب صعب"العدد 2920 - الجمعة 03 سبتمبر 2010م الموافق 24 رمضان 1431هـ